... في نقد الأحزاب المغربية

13 مايو 2014

مناصر لحزب الاستقلال مبتهجاً بنتائج الانتخابات في 2007 (أ.ف.ب)

+ الخط -

تعدّ المملكة المغربية من الدول العربية القليلة التي تبنت، قبيل الاستقلال وبعده، التعددية الحزبية، مكوناً "بنيوياً" في المشهد السياسي العام، لمواجهة مظاهر القصور والضعف التي ميّزت المعطى السياسي للدولة "الحديثة"، وبناء مشروع مجتمعي لمغرب "الغد". وشهدت الساحة السياسية الوطنية فعالية حزبية، بالغة الأهمية في العقود الثلاثة بعد الاستقلال، تعلق الأمر بالمساهمة الملموسة في نشر الثقافة السياسية الرفيعة، وتأهيل المواطنين وتأطيرهم وتوعيتهم بواقعهم والعالم المحيط بهم، أو بالدفاع عن الطبقات الشعبية المحرومة، والوقوف أمام أصحاب القرار، ومواجهتهم بقدر كبير من النضال والتضحية ونكران الذات.

وكان من المفترض أن يمهد هذا السبق "الاستثنائي" لإرساء تجربة ديمقراطية عربية نوعية، قد تتخذ نموذجاً يحتذى في باقي الأقطار العربية، ومثالاً يعمم من أجل بلورة وطن عربي موحد، يمتح مفرداته الوجودية من سجل الديمقراطية الكونية والقيم الإنسانية المشتركة، غير أن ذلك لم يحدث، ما السبب؟
يقرّ المعنيون والمهتمون بالشأن السياسي المغربي بأن أصحاب القرار تمكنوا من تحجيم الهياكل الحزبية وتقليم أظافرها وتجريدها من "أنيابها"، في أثناء "سنوات الرصاص" والتجاذبات السياسية والصراع على تقاسم السلطة، بوسائل بالغة الخطورة، أقلها أسلوب الترغيب والترهيب والاختراق والانشقاق، بيد أن تراجع الأداء الحزبي المغربي، في العقدين الأخيرين، يعود أيضاً وربما بدرجة أكثر حدة، إلى الهيئات الحزبية نفسها، والتي رضخت بإرادتها لمسلكيات سياسوية هجينة، وفضلت الانشغال بالمصالح والقضايا الضيقة، على حساب القيم الوطنية النبيلة، الداعية إلى الديمقراطية والعدالة والحرية والكرامة الإنسانية. ومعلوم أن الفضاء السياسي المغربي الراهن يضم نحو 35 "حزباً"، غالبيتها نكرة ولا يعرفها الشارع المغربي، ولا يسمع عنها إلا في أثناء "الحملات الانتخابية" و"الاستحقاقات" البرلمانية والجماعية. وبالتالي، هي عبء على كاهل الوطن، واستنزاف مادي ومعنوي لا طائل منه، بل إن عدمها أفضل ألف مرة من وجودها!


ويمكن القول، من دون خشيةٍ من المبالغة، أن حزبين مغربيين اثنين هما الجديران بالاحترام والاعتبار، لما يتميزان به من مواصفات وسمات تكوينية، نجدها في الهياكل السياسية الدولية المتقدمة، حيث تحترم الديمقراطية الداخلية، ويعمل بمبدأ الشفافية والحوار وتقبل الاختلاف والتنوع والاعتراف بالتيارات والتداول الحضاري على "الزعامة". ويا للمفارقة، الأول يمثل الإسلام السياسي المعتدل (العدالة والتنمية)، ويرأس الحكومة الائتلافية الحالية، والثاني يمثل اليسار الاشتراكي التقدمي (اليسار الاشتراكي الموحد)، مع وجود فرق أن "العدالة والتنمية" يحظى بشعبية كبيرة، وقريب من المغاربة ومن انشغالاتهم الملموسة وتطلعاتهم "الروحية" والمادية، و"اليسار الاشتراكي الموحد"، على الرغم من نياته الحسنة وأطره الرفيعة، لم يجد بعد المفتاح الذي يدخل به قلوب ملايين المغاربة.
وفي المقابل، هناك حزبان آخران يجران وراءهما مشروعية تاريخية ووطنية أكيدة، كما أنهما اعتبرا من أبرز الهياكل الحزبية في العالم الثالث، في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وما من شك أنه كلما ذكرنا حزب الاستقلال، استحضرنا المؤسس خالد الذكر علال الفاسي، صاحب النظر الثاقب والفكر السديد والثقافة العميقة. ولعل مؤلفاته الوطنية والسياسية والمعرفية، ومنها كتاب النقد الذاتي، توجز، بشكل منقطع النظير، صورة الزعيم السياسي البطل، فهو رجل فكر وإبداع ورجل نضال يومي من أجل الدفاع عن ثوابت الأمة.
الآن، أضحى حزب الاستقلال مجرد ذكرى تقترن بالمواسم الانتخابية وتوزيع الغنيمة مع الضرب بعرض الحائط بأدبياته المعرفية والسياسية والأيديولوجية المحافظة والصادقة، والاقتصار على البهرجة الشعبوية والاستعراض الإعلامي عديم الأهمية، ما استدعى مواجهة من "تيار" داخلي، يدعو إلى رفض اغتصاب الاستقلال والتنديد المطلق، وبـ"لا هوادة" بتغيير خطاب الحزب، و الخروج على أدبيات الحوار المنفتح، البعيد عن توظيف المعجم العدائي والسب العلني للشرفاء من أبناء الوطن. تماماً كما أن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي كان يقيم الدنيا ولا يقعدها في "الزمن السياسي الجميل"، في عهد المهدي بنبركة وعمر بنجلون وعبد الرحيم بوعبيد، أضحى "محارة" فارغة، ومستعداً للتواطؤ مع الشيطان من أجل معارضة "شرسة" للإسلام السياسي "الظلامي"، وتعطيل الانتقال الديمقراطي الهش، ويتجاهل "الديمقراطية" و"الانفتاح" والأصوات المنادية بالتنزيل الديمقراطي للدستور الجديد وإصلاح الدولة من داخل الحزب نفسه، فلا صوت يعلو على صوت "الزعيم"، أما الأصوات المعارضة والآراء المختلفة، فلا محل لها من الإعراب، لأنها تتعارض و"قوانين" الحزب و"مقرراته".
إنها العودة إلى الستالينية والقبضة الحديدية، والدوس على الديمقراطية التشاركية والحكامة السياسية ومبدأ الاختلاف، وباقي الشعارات واليافطات التي توظف خصيصاً للاستهلاك التلفزيوني والثرثرة في أروقة الفنادق المصنفة.
هل يمكن إقامة دولة عصرية تستبطن المشترك الدولي وتستحضر القيم والمبادئ والأعراف والمواثيق المتعارف عليها كونياً بهذه الفقاقيع الهوائية؟ وهل يمكن بناء مجتمع ديمقراطي حداثي يضمن التنمية، والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية بهكذا أحزاب سياسية، تفتقر إلى أبسط أبجديات الحداثة والديمقراطية والفكر الراجح، وتتنكر للمبادئ الأخلاقية والأيديولوجية التي سطرها الزعماء المؤسسون بدمائهم الطاهرة، ونزعتهم الوطنية الخالدة، وتتخلى عن وظيفتها المقدسة: التأطير والتكوين وتمثيل الناخبين والمساهمة في ممارسة السلطة على قاعدة التعددية والمناخ الديمقراطي؟

 

5EF2C82D-2DAA-46CF-AEDD-FEDDF96D8CAC
الصادق بنعلال

كاتب من المغرب