في مسألة قديمة متجددة

14 نوفمبر 2015
+ الخط -
لا أريد أن أكرّر كلاماً مكرراً، ولا اجترار الماضي والعودة إلى البكائيات. ولكن، أبدأ بنقطة قديمة متجددة، هي أنه لم يكن هناك تمهيد ونقاش فكري كافٍ في مصر قبل ثورة 25 يناير، لم يتم حسم شكل الدولة التي نريدها، العلاقات المدنية العسكرية، علاقة الدين بالسياسة.
كان هناك إجماع على إسقاط حسني مبارك بين القوى والمجموعات التي انطلقت في 2005. ولكن، ظهرت خلافات كبرى بعد 11 فبراير 2011، وربما في أثناء الـ 18 يوماً، كانت أحياناً في التفاصيل بين المجموعات الشبابية التي أطلقت الشرارة حول "كيف"، لكن الأزمة الكبرى كانت في الخلافات التاريخية حول "ماذا" بين التيارات القديمة من أنصار الحكم الديني، أو أنصار الحكم العسكري، أو السلطوي والشمولي.
ليست وحدها الثورات التي غيّرت في تاريخ البشرية سبقها تمهيد فكري طويل، بل كان للثورات العربية والوطنية تمهيد فكري سنوات طويلة. قبل ثورة 1919 كان تمهيد من الفكر الليبرالي، وكانت كتابات ونقاشات عن القومية العربية قبل الثورة العربية الأولى في بدايات القرن العشرين، أو ثورات التحرر العربية في منتصف القرن العشرين.
ولكن، هل أخطاء الشباب وسوء تنظيمهم ما أديا إلى انتصار الثورة المضادة الحالية وعودة النظام القديم؟ ماذا عن الانتهازية والصراعات التاريخية والتنافس على نفاق المجلس العسكري بين الإسلاميين والأحزاب التقليدية التي تدّعي المدنية، وتضم ليبراليين وناصريين وقوى من الماضي؟ ماذا عن دور مثقفي السلطة، وهم أخطر من شيوخ السلطة؟ ثمّة نخبة حول عبد الفتاح السيسي عابرة العصور. رافع بعضهم، في أيام الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب، عن القومية والاشتراكية، ثم عن الرئيس المؤمن والتوجه الإسلامي تارة، ثم الانفتاح والتعددية السياسية تارة أخرى، في عهد السادات، ثم انضم بعضهم للحزب الوطني في عهد مبارك. وها هم يظهرون مرة أخرى، ويظهر تلاميذهم، للدفاع عن السلطوية والانتهاكات ورئيس الضرورة. مثقف السلطة أخطر من شيوخ السلطة، يستغل لسانه وبعض علمه الأكاديمي وقدرته على الخطابة أو الكتابة، من أجل النفاق وتزييف الوعي والتبرير والدفاع عن الباطل.
قد يكون مثقف السلطة أخطر من الحاكم المستبد، فبدون تبريراته وخداعه، لن يستطيع هذا الحاكم خداع الشعب، فعلها جمال عبد الناصر والسادات ومبارك، وها هو السيسي يستعين بأبواق للتبرير والنفاق، ذات طابع أكاديمي تحاول تزييف الواقع. ولكن، هناك نوع آخر من المجاملة، قد يصل إلى النفاق، وقع فيه معظم شباب الثورة، وإنْ بنيّاتٍ طيبة "مجاملة الجماهير". قد تكون عن اقتناع بأن الجماهير على صواب، أياً كان اتجاه ضغوطهم، وربما تكون مجاملة الجماهير للحصول على شعبية أكبر، وربما خوفاً وانصياعاً لرغبات الجماهير، ولو كانت خاطئة أو متعارضة مع بعض القيم أو المفاهيم.
يثير النقاش في هذه النقطة غضب بعض الزملاء والأصدقاء والرفاق. ولكن، من حقي الاعتقاد بأن ليس كل ما تطلبه الجماهير هو الصواب، ولم يكن كل ما فعلناه، في بعض الأوقات، تحت ضغوط الجماهير، صواباً، فأحياناً تكون هناك مطالب لديها تأييد جماهيري واسع، ومتعارضة مع قيم إنسانية، أو ظالمة لبعض فئات المجتمع، أو حتى متعارضة مع مطالب الثورة. مثلاً، لم يكن العنف والعنف المضاد قبل "30 يونيو" من الصواب، ولم يكن تخوين كل من يحاول الوصول إلى حل وسط من الصواب، ولم يكن وضع الثورة في مقابل السياسة من الصواب، وكأن الفعل الثوري ليس سياسة، ولم يكن من الصواب انسياق بعضنا وراء مطالب أو أفعال عنف أو إقصاء أو تخوين أو مزايدات، ولو كانت شعبوية.
وأعترف أنه ليس من السهل الموازنة بين القيم المجردة وبعض المطالب الشعبية المتعارضة مع القيم الديمقراطية أو الإنسانية المجرّدة، إنْ لم يكن مستحيلاً، فأحياناً يكون الصوت العالي هو الغالب، وكثيراً ما يكون الخطاب العاطفي الأكثر جاذبية، حتى لو كان يتعارض مع العقل والمنطق، أو الديمقراطية أو الإنسانية أو مطالب الثورة.
إنهما المطرقة والسندان بين العقل والعواطف، بين ما تعتقده أو ما يريده الجمهور، بين القيم التي تدافع عنها أمام الصوت العالي، أو أمام السلطة، أو أمام المزايدات، أو أمام الغوغائية ومطالب الإقصاء أو الانتقام، إنه الخيط الرفيع بين المطرقة والسندان.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017