09 نوفمبر 2024
في مسألة عمرو خالد
ليست مشكلة عمرو خالد، وخطابه الدعوي المستمر، كما قال، منذ عشرين عاماً، في زلة لسان هنا، أو هفوة تجارية هناك، كحال إعلان تسويق صنف من الدجاج قبل أيام، بل هي مشكلة منهجية متأصلة عنده، حتى لو صلحت النيات.
نشر كاتب هذه السطور كتيباً في العام 2006، جاء فيه أن "الداعية الشاب" عمرو خالد، الذي كان في أوج نجوميته يومها، لا يقدم جديداً مبشراً بالتغيير النهضوي، بل إنه وخطابه الذي انساق وراءه مئات آلاف الشباب المتحمسين للنهوض على أساس إسلامي، إنما يمثلان الوجه الآخر لاضطراب الوعي عند المسلمين والعرب، الساعين إلى النهضة الحضارية، من زاويتين، ينطوي عليهما خطابه:
أولا، عدم وعي التاريخ: فالتاريخ ليس سياقاً متصلاً يمكن تطبيق حالة نجاح ما فيه، على أي مرحلةٍ لاحقة، وإنما هو مجموعة سياقات، لكل منها ظروفها. وعلى سبيل المثال، مثلت الثورة الصناعية نقطة قطيعة مع الماضي، بالنسبة للعالم كله، بما فيه عالمنا العربي الذي اصطدم بأوروبا الناهضة منذ أكثر من مئتي عام، فبات، منذ ذلك التاريخ، يحلم بالنهضة مثلها. اليوم، نعيش مرحلة متصلة مع الثورة الصناعية (بما فيها من ثورة رقمية) ومنفصلة عما قبلها، لذا لا يكون منطقياً، وبلا فائدة، الاقتداء بتجارب البشر الذين عاشوا قبل الثورة الصناعية، بمن فيهم المسلمون البشر الذين تفوقوا في زمنهم بإمكانات مادية، ليس منها غزو الفضاء والقنابل النووية. لكن خطاب عمرو خالد، وغيره ممن سمّاهم الناس "الدعاة الجدد"، ظل يترك الواقع الراهن الملموس بظروفه وتفاصيله، ليغوص في "التراث"، أي في تاريخ المسلمين، بحثا عن حلٍّ فيه يمكن تطبيقه على واقعنا، كي نحقق النهضة، من دون أن يأخذ بالاعتبار الفروق الموضوعية بين المراحل التاريخية. نتحدث هنا عن تاريخ المسلمين، لا عن الإسلام نفسه؛ لذا فإن وعي التاريخ يستدعي، بالنسبة للدعاة، تطهير دعوتهم من ظروف الحقب التاريخية الماضية، وهذه إحدى المسائل التي ظلت غائبة عن خطاب عمرو خالد، على مر السنين.
ثانيا، عدم وعي المجتمع: وحتى في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية، العالم ليس واحداً، ذلك أن
أمم الأرض باتت تتباين في بناها الاجتماعية، تبعاً لمدى استفادتها من نتائج تلك الثورة، فالمؤكد أنها في عالمنا العربي بنية أبوية، لا قيمة حقيقية فيها لمبادرة الفرد، تعتمد على القبلية والعشائرية والطائفية، وما يتبعها من إهدار لسلطة القانون. والحال غير ذلك بالطبع في الغرب الذي يبحث فيه "الدعاة" عن مثل وقدوة. ظل هذا الفهم غائباً عن خطاب عمرو خالد، خصوصا منذ طرح برنامجه "صنّاع الحياة".
على أن أزمة "النموذج" ليست مقصورة على الدعاة، من أمثال عمرو خالد، بل هي مشكلة الفكر والتفكير في عالمنا العربي، منذ اصطدامه بأوروبا الناهضة، فمن الناس من رأى في أوروبا نموذجاً يقتدي به، ومنهم من رأى في الحضارة الغربية وتاريخ المسلمين معاً قدوةً يأخذون فيها بـ"الأصالة والمعاصرة"، ومنهم بالطبع من اتخذ تاريخ المسلمين قدوة خالصة. الفرقاء كلهم اتفقوا على الحاجة إلى "نموذج" يقلدونه، ولم يستطع أي منهم أن يخرج إلى رحابة الإبداع المناسب لهذا الزمان الجديد.
ما يمكن قوله هنا، تفسيراً لهفوة "إعلان الدجاج" الذي وقع فيه عمرو خالد، إن فكرة تقليد "النموذج" بسيطةٌ وسهلة، لا تستلزم جهداً فكرياً. لذا فهي تنجح، حيثما وجدت متلقين محدودي الثقافة والمعرفة، وتلك حال مجتمعاتنا العربية التي يحصل أبناؤها على شهاداتٍ جامعية، من دون بناء معرفي وثقافي فردي متين، ولا تأهيل حقيقي للإبداع والتفكير المستقل. ولهذا بالضبط تستهويهم فكرة "النموذج" القابل، في ظنهم، للتقليد. وهذا يعني أن نجاح عمرو خالد، وأشباهه، ظل يكمن في ملاءمة خطابه لطبيعة تفكير جمهوره الواسع، القائم على التبسيط الشديد، ما دفعه في السنوات الأخيرة إلى المبالغة في الاعتقاد ببساطة جمهوره، إلى درجة الظن بإمكانية أن ينطلي عليه إعلان تسويق الدجاج على أساس ديني.
نشر كاتب هذه السطور كتيباً في العام 2006، جاء فيه أن "الداعية الشاب" عمرو خالد، الذي كان في أوج نجوميته يومها، لا يقدم جديداً مبشراً بالتغيير النهضوي، بل إنه وخطابه الذي انساق وراءه مئات آلاف الشباب المتحمسين للنهوض على أساس إسلامي، إنما يمثلان الوجه الآخر لاضطراب الوعي عند المسلمين والعرب، الساعين إلى النهضة الحضارية، من زاويتين، ينطوي عليهما خطابه:
أولا، عدم وعي التاريخ: فالتاريخ ليس سياقاً متصلاً يمكن تطبيق حالة نجاح ما فيه، على أي مرحلةٍ لاحقة، وإنما هو مجموعة سياقات، لكل منها ظروفها. وعلى سبيل المثال، مثلت الثورة الصناعية نقطة قطيعة مع الماضي، بالنسبة للعالم كله، بما فيه عالمنا العربي الذي اصطدم بأوروبا الناهضة منذ أكثر من مئتي عام، فبات، منذ ذلك التاريخ، يحلم بالنهضة مثلها. اليوم، نعيش مرحلة متصلة مع الثورة الصناعية (بما فيها من ثورة رقمية) ومنفصلة عما قبلها، لذا لا يكون منطقياً، وبلا فائدة، الاقتداء بتجارب البشر الذين عاشوا قبل الثورة الصناعية، بمن فيهم المسلمون البشر الذين تفوقوا في زمنهم بإمكانات مادية، ليس منها غزو الفضاء والقنابل النووية. لكن خطاب عمرو خالد، وغيره ممن سمّاهم الناس "الدعاة الجدد"، ظل يترك الواقع الراهن الملموس بظروفه وتفاصيله، ليغوص في "التراث"، أي في تاريخ المسلمين، بحثا عن حلٍّ فيه يمكن تطبيقه على واقعنا، كي نحقق النهضة، من دون أن يأخذ بالاعتبار الفروق الموضوعية بين المراحل التاريخية. نتحدث هنا عن تاريخ المسلمين، لا عن الإسلام نفسه؛ لذا فإن وعي التاريخ يستدعي، بالنسبة للدعاة، تطهير دعوتهم من ظروف الحقب التاريخية الماضية، وهذه إحدى المسائل التي ظلت غائبة عن خطاب عمرو خالد، على مر السنين.
ثانيا، عدم وعي المجتمع: وحتى في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية، العالم ليس واحداً، ذلك أن
على أن أزمة "النموذج" ليست مقصورة على الدعاة، من أمثال عمرو خالد، بل هي مشكلة الفكر والتفكير في عالمنا العربي، منذ اصطدامه بأوروبا الناهضة، فمن الناس من رأى في أوروبا نموذجاً يقتدي به، ومنهم من رأى في الحضارة الغربية وتاريخ المسلمين معاً قدوةً يأخذون فيها بـ"الأصالة والمعاصرة"، ومنهم بالطبع من اتخذ تاريخ المسلمين قدوة خالصة. الفرقاء كلهم اتفقوا على الحاجة إلى "نموذج" يقلدونه، ولم يستطع أي منهم أن يخرج إلى رحابة الإبداع المناسب لهذا الزمان الجديد.
ما يمكن قوله هنا، تفسيراً لهفوة "إعلان الدجاج" الذي وقع فيه عمرو خالد، إن فكرة تقليد "النموذج" بسيطةٌ وسهلة، لا تستلزم جهداً فكرياً. لذا فهي تنجح، حيثما وجدت متلقين محدودي الثقافة والمعرفة، وتلك حال مجتمعاتنا العربية التي يحصل أبناؤها على شهاداتٍ جامعية، من دون بناء معرفي وثقافي فردي متين، ولا تأهيل حقيقي للإبداع والتفكير المستقل. ولهذا بالضبط تستهويهم فكرة "النموذج" القابل، في ظنهم، للتقليد. وهذا يعني أن نجاح عمرو خالد، وأشباهه، ظل يكمن في ملاءمة خطابه لطبيعة تفكير جمهوره الواسع، القائم على التبسيط الشديد، ما دفعه في السنوات الأخيرة إلى المبالغة في الاعتقاد ببساطة جمهوره، إلى درجة الظن بإمكانية أن ينطلي عليه إعلان تسويق الدجاج على أساس ديني.