في مسألة داعش

21 فبراير 2019
+ الخط -
تحتدم معارك حامية، في هذه الآونة، بين مقاتلي قوّات سورية الديمقراطية (قسد) المدعومة من التحالف الدولي، والعناصر المُتبقية من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في بلدة الباغوز شرق نهر الفرات، في إطار الهجوم الذي تشنّه الأولى للقضاء على الجيب الأخير للثانية الذي يُعدّ أقلّ من 1% من مساحة ما أطلق عليه داعش "دولة الخلافة"، بعد توقّف اضطراري لإجلاء نحو 20 ألف مدني من مناطق خاضعة لسيطرة "داعش" في محافظة دير الزور. وكان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قد صرّح قبل أيام بأنه "من المُنتظَر أن يُعلَن الأسبوع المقبل أننا سيطرنا رسمياً على مئة في المئة من أرض الخلافة".
وكان تنظيم داعش قد أعلن، في منتصف العام 2014، تأسيسه ما سماه "دولة الخلافة"، بعد سيطرته على مساحاتٍ شاسعةٍ من سورية والعراق، تضمّ أكثر من 7.7 ملايين شخص، وقد تكبّد التنظيم خسائر فادحة طوال السنوات الماضية، بعدما فقد معقليْه الرئيسييْن في الموصل والرقّة، بيْد أن تقارير الأمم المتحدة تقول إنّ التنظيم لا يزال لديه ما بين 14 ألفاً و18 ألفاً من المُسلّحين في سورية والعراق، من بينهم ثلاثة آلاف أجنبي.
يمثّل "داعش" النسخة الأشرس والأكثر دموية من التنظيمات التكفيرية العنيفة التي ظهرت خلال العقود الماضية. وقد مارس التنظيم، منذ ظهوره، عنفاً إجرامياً غير مسبوق، مصحوباً بنزعةٍ تكفيريةٍ حادّة لكل مخالفيه (حتى من الفصائل التكفيرية الأخرى)، تفنّن خلاله في 
استعراض قدراته على القتل بأساليب بالغة الشناعة، حرص على تصويرها بتقنيات حديثة في سياق حربه النفسية، واستراتيجية الترويع ضدّ خصومه. وبعدما أوشكت الحرب أن تضع أوزارها، وقد صار المشهد قاب قوسيْن أو أدنى من القضاء على المعقل الداعشي الأخير، وهزيمته عسكرياً، يطرح السؤال: هل انتهت ظاهرة داعش إلى الأبد بعدما انتهت خلافته المزعومة؟
تقتضي الإجابة على السؤال تفكيك الأصول التي تقوم عليها السردية الداعشية، والتي تعني رصد (وتحليل) الأسباب والشروط الموضوعية التي أدّت إلى ظهور "داعش"، التنظيم الإجرامي الذي تمدّد في وقت قياسي بصورة لافتة، وبكل أسف، مثّل "بريق أمل" لآلاف من الشباب في العالم انضووا تحت لوائه (بعضهم ينحدرون من خلفيات تعليمية، ومهنية، واجتماعية، رفيعة، سيّما الأوروبيين)، إمّا بالذهاب إلى أرض خلافته المزعومة، أو عبر التشبّع بأفكاره المسمومة عن بُعد، والقيام بعمليات إرهابية عبر خلايا صغيرة، أو "الذئاب المنفردة"، على الرغم من أنّه لا يحمل بضاعة سوى التكفير والقتل للجميع (!).
تقول الخبرة التاريخية الناتجة من أحداث العقود الماضية إنّ ظهور التنظيمات التكفيرية العنيفة يرتبط بالأساس بوجود الفساد والاستبداد، مع التأكيد على أن ظهور "داعش" يرتبط بعامل إضافي، ولحظة تاريخية، شهدت انتكاسة كبيرة للربيع العربي، وتدشين موجة الثورات المضادّة، وهو ما انعكس على درجة التشدّد التكفيري التي حملها "داعش"، ومستوى العنف الإجرامي الذي اقترفه، ما جعل النسخة القديمة من التنظيمات التكفيرية تبدو "معتدلةً"، مقارنة بما حملته جرائم داعش الوحشية (!).
في سياق الاهتمام الدولي بظاهرة "داعش"، أصدرت منظمة الشفافية الدولية تقريراً بالغ الأهمية، في فبراير/ شباط 2017، تحت عنوان "المُحفِّز الكبير"، نشره موقع هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) جاء فيه: إنّه لا يُمكن أبداً هزيمة تنظيم داعش، ما لم يتمّ التعامل مع الظروف الفاسدة التي تُساعده على النموّ والتمدّد. واتهم التقريرُ حكومات الدول الغربية، بما فيها المملكة المتحدة وأميركا، بتجاهل الفساد باعتباره محفّزا رئيسيا يؤدي إلى انتشار الإرهاب، خصوصا في الشرق الأوسط. وأضاف التقرير أنّ التنظيم استغلّ الفساد لنشر التطرّف والتجنيد، مُقدّماً نفسه العلاج للفساد، بينما يسعى إلى ستر أنشطته غير الشريفة.
وقالت مديرة برنامج الدفاع والأمن في منظّمة الشفافية الدولية، كاثرين ديكسون، إنّ الفساد هو الصرخة التي يجمع بها التنظيمُ المؤيّدين، وأسلوب عمل رئيسي له، وأضافت أنّ الأمر لا يتعلّق بمجرّد إغلاق قنوات الفساد التي تزيد قدرة العمليات اليومية لجماعاتٍ مثل تنظيم داعش، بل بإعادة التفكير في العلاقات مع أمثال حسني مبارك، ومعمر القذّافي، ونوري المالكي، الذين سوف يظهرون في المستقبل، مُؤكِّدة أنّ الفساد تهديدٌ أمنيٌّ حقيقي، وأكثر من وسيلةٍ تتبعها الصفوة لملء جيوبها، فإنّ الحكومات الفاسدة، في النهاية، إنّما هي بتأجيج غضب الناس وتقويض المؤسسات، مهندس أزماتها الأمنية. وأبدت ديكسون دهشتها من التركيز على التعامل مع الخطاب الديني للتنظيم، وتجاهل الظروف المادية التي يزدهر فيها، مُحذِّرةً من أنّه من دون علاج لمشكلة الفساد، لن يُهزَم "داعش" على المستوى الأعلى حسب التقرير الذي يلفت إلى خطورة الفساد، بصوره المتنوّعة، وما يُخلّفه من آثار كارثية على الدول والمجتمعات، ويؤكّد وجود علاقة طردية بين الفساد وانتشار التطرّف، حيث يمثّل الأول وقوداً مثالياً للثاني. ومن 
البديهي أن يقترن انتشار الفساد (احتكار الثروة) بالاستبداد (احتكار السلطة)، فالأول لا ينتشر إلا في غياب الشفافية وما تتيحه الممارسة الديمقراطية من آليات المحاسبة والمساءلة للفاسدين، وما يستتبعه ذلك من تحوّل مؤسسات الدولة إلى "ضيعات" وإقطاعيات خاصة، مملوكة لدوائر محدودة من "شِلل"، أو الأدق "عصابات"، من أصحاب الحظوة والنفوذ، ما يؤدّي، في المحصّلة النهائية، إلى مناخٍ مأزومٍ، يسوده الاحتقان الناتج من فقدان الناس الإحساس بقِيَم العدل، والمساواة، وتكافؤ الفرص، فضلاً عن تحقيق العدالة الاجتماعية، وهو ما يُشكّل بيئة مثالية لانتشار الأفكار المُتطرّفة، ففي ظلّ انتشار الفساد تُغلَقُ أبواب الحِراك الاجتماعي، وتتحوّل الاحتياجات البديهية لأي شاب، مثل الوظيفة العادية، والراتب المعقول، والمسكن الملائم، أحلاما بعيدة المنال. وبطبيعة الحال، تصير أمور أخرى، مثل وظيفة مرموقة، أو امتلاك شقّة في مكان متميّز، ولو على المدى البعيد، من قبيل أضغاث الأحلام، أو المستحيلات، ما يدفع الشباب إلى البحث عن بديلٍ يُمثّل مهرباً من هذا الواقع الأليم، ويجعل منهم فريسة سهلة للوقوع في شراك أي"يوتوبيا" زائفة خادعة، ذات طبيعة عدمية وسوداوية تحاول اجتذابهم، حتى ولو كانت بدرجة إفلاس وبؤس السردية الداعشية.
غنيٌ عن البيان أنّ الفساد ليس الأصل الوحيد الذي تقوم عليه السردية الداعشية، وإنّما هو مجرّد رافد ضمن روافد أخرى عديدة، سياسية، وثقافية، وفكرية، واجتماعية، تمثّل البيئة المولّدة، والحاضنة المجتمعية للتطرّف والإرهاب. وبالعودة إلى السؤال المطروح آنفاً، فإن الانتصار العسكري على "داعش" يعني نهاية هذه النسخة من التنظيمات الراديكالية التكفيرية فقط، ولا يعني نهاية السردية الداعشية أو تلاشيها، لأن الظروف الموضوعية التي أنتجتها ما زالت باقية، لم يتمّ التعاطي الناجع معها بعد، أو تفكيكها. وعليه، قد يشهد المستقبل عودة إلى السردية الداعشية في نسخة أخرى، بعد أن تتزيّا بزيٍ جديدٍ، قد تكون أشدّ عنفاً ووحشية من نسختها الأخيرة.