من مشاهد التعليم في مصر

18 اغسطس 2024

(عبد الهادي الجزار)

+ الخط -

في سابقة تاريخيّة تُعدّ الأولى من نوعها في تاريخ امتحانات الثانويّة العامّة في مصر، وبعد مرور أسبوع على إعلان نتيجة الثانويّة العامّة بصورة رسميّة واعتمادها من الوزير، قررّت وزارة التربيّة والتعليم إضافة درجتيْن إلى نتيجة بعض طلّاب الشُعبة العلميّة في امتحان مادة الفيزياء الذي خاضه الطلّاب في 29 يونيو/ حزيران الماضي، بعد احتساب الإجابة (ب) صحيحة للسؤال رقم 34 بالامتحان. وأوضحت الوزارة أنّه من منطلق حرصها على مصلحة الطلّاب وحصولهم على حقوقهم، اتّخذت الوزارة عدة إجراءات في ما يتعلّق بتصحيح امتحان مادّة الفيزياء، وتجري الوزارة تعديلاً على نتيجة ودرجات طلّاب الثانويّة العامّة شُعبة علمي بعد إضافة درجتيْن في امتحان الفيزياء للثانويّة العامّة 2024. وقرّر الوزير إحالة اللجنة المسؤولة عن مراجعة الامتحان ونموذج الإجابة بعد سحبه من بنوك الأسئلة بالكامل إلى التحقيق بصفة عاجلة، نظراً إلى عدم تحرّي الدقّة في نموذج الإجابة.

القرار "التاريخي" الفريد من نوعه، الذي جاء بعد أسابيع من اختيار وزير التعليم الجديد الذي أثار تعيينُه جدلاً واسعاً في الإعلام المصري، أحدث موجة كبيرة من التعديلات في قائمة أوائل الثانويّة العامّة شُعبة العلمي، وقلبها رأساً على عقب، فقد صعد صاحب المركز الخامس في شُعبة الرياضيات إلى المركز الأوّل في النتيجة المُعدّلة، وفي شُعبة العلوم صعدت صاحبة المركز الثاني إلى الأوّل، كما صعدت صاحبة المركز السابع إلى الخامس، بينما هبطت صاحبة المركز الأوّل إلى الثالث، في حين هبطت صاحبة المركز الثالث إلى العاشر دفعة واحدة. وفي المقابل، أطاح القرار آخرين خارج قائمة الأوائل الأولى بعد تعديل النتيجة (!).

فرض انتشار ظاهرة الغشّ في الامتحانات عبر "السمّاعات" نفسه على الفضاءيْن الإعلامي والافتراضي بمصر

لم يكن هذا المشهد الملهاوي - المأساوي الوحيد الذي شهد المشهد التعليمي المصري، وإنما سبقته مشاهد أخرى في أثناء امتحانات الثانويّة العامة وبعد إعلان نتيجتها، فقد فرض انتشار ظاهرة الغشّ في الامتحانات عبر "السمّاعات" نفسه على الفضاءيْن الإعلامي والافتراضي بمصر، بعدما أمست "السمّاعات" من "لوازم" دخول الامتحان عند كثيرين، واستشرى الأمر، فصار أشبه بـ"ثقافة مجتمعيّة" ذات بُعد اقتصادي كبير، حيث ارتفع سعر السمّاعة الواحدة مع اقتراب موسم الامتحانات إلى آلاف الجنيهات.

وبعد إعلان النتيجة، وللعام الثالث على التوالي، تكفّلت مواقع التواصل الاجتماعي بفضح لجان في مدارس بعينها، تطابقت نتائج طلّابها بصورة مثيرة للدهشة، وكأنّ جميع طلّاب تلك المدارس من الجادّين المجتهدين النابهين، إلى درجة أنهم حققّوا النتيجة نفسها من دون أدنى تفاوت بينهم (!)

لا يمكن فصل تلك المشاهد عمّا حملته نتائج الفرقة الأولى في كليّتي الطبّ في جامعتي أسيوط وسوهاج في العاميْن الماضييْن، فكان المشهد فيهما لافتاً يستحقّ النظر، حيث بلغت نسبة الرسوب في العام الماضي في طبّ أسيوط 60% لأوّل مرّة في تاريخها، بينما بلغت نسبة الرسوب في طبّ سوهاج في العام قبل الماضي61%. أمّا العام الماضي فقد واصلت نسبة الرسوب صعودها في طبّ سوهاج فحقّقت رقماً قياسيّاً، حيث بلغت 75% دفعة واحدة، ما يثير علامات استفهام عديدة وكبيرة بشأن مدى الجدارة العلميّة للطلّاب الجدد بالالتحاق بالكليّة من الأصل، ومدى شرعيّة نتائجهم في الثانويّة العامة.

في النصف الأوّل من القرن العشرين، لعب التعليم دوراً كبيراً في القضاء على التفاوت الطبقي، وتجسير الفجوات الاجتماعيّة

وفي المقابل، يأتي وصول نسبة الطلبة الراسبين في الفرقة الأولى بكليّة الطبّ إلى هذه النسب المرتفعة، بمردودٍ سلبيٍ على فرصة الوافدين، فارتفاع نسبة الرسوب من شأنه تقليص الطاقة الاستيعابيّة للكليّة على استقبال طلّاب جدد، ما يرفع درجة الحدّ الأدنى للقبول في العام الجديد، وهو ما يعني حرمان طلبة عديدين، قد يكونون من المُستحقّين، من فرصة الالتحاق بالكليّة، ويدفعهم للبحث عن فرصة (في حالة توفّر القدرة الماليّة للأسرة) للالتحاق بالجامعات الخاصّة والأهليّة أو جامعات "المحاسيب" التي تُعدّ المَعْلَم الأحدث من معالم "رَسْمَلَة" التعليم في مصر.

الغشّ في الامتحانات كان يحدث في العقود الماضية، لكن في الخفاء وعلى استحياء، بصورة محدودة في الأطراف وعلى الهامش، قبل عصر "السمّاعات"، ولم يصل إلى حدّ الظاهرة، فهناك لجان في مناطق بعينها تضمّ مدارس معروفة بالاسم، لها تاريخ عريق في الغشّ المُمَنهَج في امتحانات الثانويّة العامّة، إلى درجة أن نافذين كانوا يُلحقون أبناءهم بتلك المدارس خصّيصاً في الثانويّة العامّة، لكن المُتغيّر الجديد وصول الأمر إلى مرحلة الظاهرة المُستفحلة، حيث صار الغشّ يُمارس بصورة فجّة علنيّة، من دون حياء أو خجل، في مقابل الدور الذي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة بفضح مدراس "الغشّاشين"، ما دفع الوزارة إلى الالتفات إلى تلك اللجان والتعامل معها.

هنا يتعيّن الحديث عن العلاقة بين التعليم والحِرَاك الاجتماعي الذي يمكن تعريفه بأنه انتقال الفرد من طبقة أو مستوى اجتماعي واقتصادي إلى طبقة أخرى أو مستوى اجتماعي واقتصادي آخر، عبر تغيّر يطرأ على وظيفته ومستوى دخله، يُمكّنه من ارتقاء درجات السلّم الاجتماعي بإحراز مكانة اجتماعيّة، ويكون الحراك الاجتماعي صحيّاً إذا كانت آلياته تقوم على الموهبة والكفاءة والاجتهاد وتكافؤ الفُرَص، وقد يكون غير ذلك، إذا كانت آليّاته تقوم على معايير الولاء والشِلليّة والمحسوبيّة.

ما جرى في امتحانات الثانويّة العامّة في السنوات الأخيرة وجّه ضربة كبيرة لنزاهة السباق وأفرغه من مضمونه

وقد مثّل التعليم الرافعة الأساسيّة للحراك الاجتماعي في مصر في النصف الأوّل من القرن العشرين، حيث لعب التعليم دوراً كبيراً في القضاء على التفاوت الطبقي، وتجسير الفجوات الاجتماعيّة، وفتح الأبواب واسعة أمام النابهين من أبناء الطبقتيْن الوسطى والدنيا لارتقاء درجات السلّم الاجتماعي، حتى تغيّر الحال منذ السبعينّيات، فبدأ دور التعليم يتراجع مع ظهور آليّات أخرى. والنقطة اللافتة هنا أن امتحان الثانويّة العامّة كان في العقود الماضية سباقاً نزيهاً شريفاً (وظلّ هذا الحال قائماً رغم انتشار ظاهرة الدروس الخصوصيّة) يحمل الحدّ الأدنى من العدالة وتكافؤ الفرص أمام الطلّاب، ويمنح المتوفّقين منهم قدراً من التكريم، ويفتح أمامهم أبواب الصعود الاجتماعي.

بيْد أن ما جرى في امتحانات الثانويّة العامّة في السنوات الأخيرة وجّه ضربة كبيرة لنزاهة السباق وأفرغه من مضمونه، والآثار الوخيمة لتلك المشاهد المؤسفة تتجاوز نقطة انهيار المنظومة التعليميّة أو تغيير الخريطة الطبقيّة والتركيبة الاجتماعيّة، بصعود وتصدّر من لا يستحقّ وهبوط وتأخّر من يستحقّ إلى نقطة أخطر، وهي انهيار المنظومة القيميّة والأخلاقيّة مع انتشار منطق "الاستسهال والاستحلال"، فصارت ممارسة الغشّ أمراً عاديّاً لا غبار عليه لا يُشين صاحبه، فهناك جيل تلقّى ضربة قاصمة لمنظومته الأخلاقيّة كسرتها كسراً وحطّمتها تحطيماً، وهناك أيضاً جيل من المتميّزين يشعر بمرارة كبيرة بعدما رأى بعينيْه من يسرق فرصته في الحياة، ويسطو على مستقبله، وهو أمر من الخطورة بمكان، فكسر المنظومة القيميّة في هذه السنّ الصغيرة يُحدث شرخاً في التكوين وخللاً في الشخصيّة، سيلازم صاحبه فترة طويلة قد تمتدّ إلى نهاية العُمر، وقد يدفعه دفعاً إمّا إلى الانحراف أو إلى التطرّف.