في مديح المخيلة السورية

28 نوفمبر 2015

في الذكرى الأولى للثورة السورية في نيس (15 مارس/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

سمعتها من أكثر من صديق وصديقة لبنانية، في السنوات الأربع الماضية: "لم نكن نعرف شيئاً عنكم، الثورة السورية كشفت لنا ما كان مخفيا من شخصياتكم". يلخص هذا الاعتراف نظرة المثقفين اللبنانيين خصوصاً، والعرب عموماً، في علاقتهم مع السوريين. كان ثمة تقصير وتعميمية في رؤيتهم، وفي آرائهم عن الحياة السورية بوجوهها المتعددة، إذ استطاع نظام "البعث" فرض ما يشبه حظر الانتشار على الحياة اليومية للسوريين، بمختلف شرائحهم. قدّم الإعلام الرسمي الموجه صورة نمطية عنهم إلى الخارج: حياتهم تنحصر بين سعيهم إلى تأمين لقمة العيش، وتمجيدهم "البعث" وقائده الذي  يقدم لهم المكرمات المتلاحقة، فالحياة آمنة، ولا شيء ينغّص عيش السوريين غير إسرائيل. لهذا بدا انحيازهم غير المشروط للعروبة، كما لو كان قراراً رسمياً! لم يتعب الآخرون، غير السوريين أنفسهم، في البحث عن الحقيقة، والسؤال عن الذاكرة الجمعية للسوريين، كيف تشكلت وما هي آليات عملها، وساهم العرب (المثقفون) اللاجئون إلى سورية، هربا من أنظمتهم في تكريس هذه الرؤية.

استقبل النظام السوري هؤلاء وأكرمهم، فكان من رد الجميل أن يتبنوا وجهة نظره، لم يهتم أحد بما يفعله السوريون في يومياتهم، لتجنب الغرق الكامل في مستنقعات الخوف المتراكم. لم ينتبه أحدٌ كيف كان السوريون يتحايلون على القوانين التي تمنع عنهم التواصل مع العالم، فيُبدعون في خرقها، ويخزنون في ذواكرهم كل ما يمنع آلة اليأس من السيطرة. ليس مفاجئاً هنا، أن يعرف سوريون كثيرون غالبية الشعراء والكتاب اللبنانيين والفلسطينيين والعرب. ليس مفاجئاً، أيضاً، أن يعرفوا المقامات الموسيقية العربية، من اللحظة الأولى لسماعها. ليس مصادفةً أن معارض الكتاب في سورية كانت الأكثر ربحاً لدور النشر العربية. ليس غريباً أن يعرف السوريون ما أنتجته الثقافات الأخرى، وأن يميزوا بين الترجمات السيئة والجيدة للأدب العالمي، وأن يتخزّن ذلك كله في ذاكرة عدد ليس قليلاً منهم، على الرغم من كل ما بذله نظام "البعث" من جهد، لتجريف ذاكرة السوريين، وإبقاء العقل السوري مركوناً بعيداً عن الفعل والتحليل والدفع باتجاه التغيير.

مشكلة العرب مع السوريين أنهم لم يستطيعوا رؤيتهم بمعزل عن النظام، وهو ما اشتغلت عليه ذهنية المنظومة الحاكمة، فترات طويلة، حتى استطاعت تكريسه. لهذا، قلما نجد مثقفاً عربياً يعرف عن الحياة السورية اليومية، وعن حركة الإبداع السوري، كما يعرف نظيره السوري عن باقي العرب. لهذا، أيضاً، وقعت الغالبية في فخ التعميم عن المخيلة الجمعية السورية. لم يحب السوريون فيروز، لأن نظامهم قرّر لهم ذلك، أحبها بعضهم، لأنهم وجدوا في حلم الرحابنة حياةً يستطيع الحب أن يجعلها سهلةً وبسيطةً، وبعيدة عن الحقد الذي كانوا يشعرون أنه ينمو بينهم، من دون أن يستطيعوا لمسه، وكرهها آخرون لأنهم  رأوا في هذه التجربة انكفاءً إلى السهل والبسيط، يعيق التفكير.

اختلف السوريون حول فيروز، مثلما اختلفوا حول أم كلثوم، مثلما اختلفوا حول محمود درويش ونجيب محفوظ، مثلما اختلفوا على العلاقة مع النظام ومع الثورة لاحقاً، أما بما يخص شعرهم الوطني، فبتأكيد، لم تكن سورية وطنا يمكن التغني والتغزل به. لهذا، كان الشعر الوطني السوري إما مرتبطا بالنظام، أو لفظياً وبارداً وخالياً من أية شحنة عاطفية. مثله الغناء الوطني، لا شيء عن سورية، الوطن الذي يفترض أنه يجمع السوريين، لكن هذا كله لا يعني أنه تم تطويع المخيلة الجمعية للسوريين. اشتغلت المخيلة بصمت وبهدوء، وأنتجت الكثير مما لم ينتبه إليه ولم يعترف به أحد، لا النظام السوري ومحبوه، ولا كارهوه خارج سورية. أنتجت شعراً لدى أجيال متلاحقة. أنتجت موسيقا وغناء شبابياً مذهلاً. أنتجت حرفاً يدوية، ما زالت الأولى من نوعها، أنتجت فناً تشكيلياً مهماً، أنتجت ثقافة مطبخ متنوعة، أنتجت فلكلوراً شعبياً ظل موجودا، على الرغم من كل محاولات طمسه وتطويعه مع السياق العام. أنتجت ثورةً كادت لتكون أعظم ثورات التاريخ البشري، لولا إصرار العالم كله على القضاء عليها بشتى الطرق، التعميم عن السوريين كان أحد وسائل القضاء على هذه الثورة، وكأنه قدر يرافق حياة هذا الشعب المنكوب. 

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.