05 نوفمبر 2024
في كواليس صيف لبنان
يمنّنوننا بالاستقرار الذي ننعم فيه وسط منطقةٍ مشتعلةٍ منذ سنوات، لم تنطفئ نيرانُ احتراقها، ولا نَعِمَ قتلاها بهدنة، ولا عرف أهلُها سترا أو حمايةً أينما ارتحلوا. يمنّنوننا أننا، بفضلهم، لم نعرف إرهابا أو اقتتالا أهليا، أن حدودنا الجنوبية محميةٌ بالرجال والعتاد، والشمالية، بفضلهم، سدٌّ منيع بوجه الإرهاب. يمنّنوننا بما زرعوه من فسادٍ، وقطفوه من تحلّل واهتراء، بانتخاباتهم، قوانينهم، التمديد لأنفسهم، بصفقاتهم ومؤامراتهم وخساستهم وسرقاتهم.
يمنّنوننا بحظّ وجودهم بيننا، أو يتباهون بفلش تلك اللفافة الطويلة، حيث دوّنت أسماء مهرجاناتهم الصيفية التي ترعاها نساؤهم، والموزّعة على كل مناطق لبنان، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا. كأنما لإقناعنا أن البلاد في أفضل حالاتها، ترقصُ وتحتفلُ وتغنّي وتطرب وتستقبل فنانين يؤمّونها من جهات العالم الأربع. وإنْ تساءلنا متهكّمين عمّن تُراه سيغامر ليسوح في بلادنا بعد، يتنطّح وزيرٌ ليطمئننا أن اللبنانيين وحدهم، القادمين من بلاد الغربة، كافون لتحريك عجلة الاقتصاد، هذا فيما نحن نسمع، من الجانب الآخر، طبولَ الحرب تدقّ، منبئة إيانا بحروبٍ آتية، وبأن الآتي أعظم.
وحين نتناسى ذلك كله، مغمضين أعيننا عن تلف حالتنا، ننتبه إلى أن تلك المهرجانات، حيث تفوق أسعار البطاقات، ما لا نقدر عليه بكثير، لا تُقام لنا، نحن الذين تعذّبنا تلك الكهرباء اللعينة التي لم نجد لها حلا بعد أربعين عاما من المعاناة والانتظار، والتي تجعل أصحاب تلك المخلوقات العجيبة الضخمة تتحكّم بنا وبرقابنا، فإذا بها تنقطع فجأة هكذا، من دون سبب، "لإراحة الموتور قليلا"، يجيبنا "الجدع" أو "العتعيت"، زاعقا في وجوهنا وآذاننا، مستبقا بعبوسه أي تعقيبٍ أو اعتراضٍ أو مطلب محتمل.
وإذ يتناوب علينا ذلك البرغش القاتل الذي طوّر آلته السامة، عاما إثر عام، ومُبيداً إثر مُبيد، حتى صار، هو المتجوّل بأريحيةٍ لا متناهية في مختلف بقاعنا، من أكثر الحشرات تطوّرا وفتكا، إن لم يكن من أكثرها بربريةً. فها هو لا يغادر سهراتنا، يمتصّ دماءنا، محوّلا جلودنا إلى حقولٍ من الحكاك والتورّم والعقص. وما أحلاها لحظة، عندما ننهض من فراشنا المبلل بعرقنا، لنجدها تلك البرغشة اللعينة واقفةً خلف رأسنا، ترتاح من عناء امتصاص دمنا، واستدعاء سخطنا وأرقنا، وقد أمسكنا الخفّ على مهل، وضربناها به في التوقيت والسرعة الواجبتين، ورحنا نضحك ظافرين منتشين، منتقمين من تلك البقعة الحمراء الصغيرة، وقد التصقت بالحائط.
وإذ تنقطع الكهرباء، ويصبح مستحيلا تشغيل المكيّف، نفتح النوافذ، راجين برودةً يرسلها إلينا المساء، فتهفّ الروائح الكريهة المتضاربة، المنبعثة من مكبّات النفايات الرسمية، والمكبّات العشوائية، المتروكة على حالها هنا وهناك، لِعبث القطط الداشرة، والجرذان الجائعة، والكلاب المستذئبة، تحرّكها النسائم، فلا نعود نعرف إلى الإله سبيلا: أنقفل النوافذ اتقاءً منها، أم نختنق بحرّ تزيده العتمة بؤسا.
وإذ نسمع أن جيشنا الذي نحبّ ونجلّ، جيشنا الذي بات يشكّل آخر صخرة خلاصٍ لنا، جيشنا الذي نغنج له، كما نغنج لأبنائنا، ذاك الذي نناديه مبتسمين متواطئين "يا وطن"، لأنه في قناعتنا بات آخر ما يمثل في أعيننا الوطن، قد ارتكب ما لا يسرّنا، نشعر بالخذلان والحزن والأسف، إذ كيف ينكّلَ بالمضطهد والفقير اللاجئ في أرضنا، ويميتُ على يده أبرياءً، ترهيبا ودفعا قسريا إلى الرحيل، ولو إلى جحيم الوحوش والغيلان.
ياه، هذا كلّه، فيما المياه منقطعةٌ منذ أيام، لسببٍ لا ندركه، والأخبار التي تردنا من جميل إلى أجمل، ومن رائع إلى أروع، ومن جيّد إلى أجود، وصور الجلسات المنعقدة من حلو إلى أحلى، وصور السيلفي لشعبنا فائضة كالمجارير من فوقنا، والناس مطروبةٌ تتمايل رافعةً أذرعها، محرّكة خصورها، سعيدة بالغناء مع مطربها. الله، يا ليل يا عين...
يمنّنوننا بحظّ وجودهم بيننا، أو يتباهون بفلش تلك اللفافة الطويلة، حيث دوّنت أسماء مهرجاناتهم الصيفية التي ترعاها نساؤهم، والموزّعة على كل مناطق لبنان، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا. كأنما لإقناعنا أن البلاد في أفضل حالاتها، ترقصُ وتحتفلُ وتغنّي وتطرب وتستقبل فنانين يؤمّونها من جهات العالم الأربع. وإنْ تساءلنا متهكّمين عمّن تُراه سيغامر ليسوح في بلادنا بعد، يتنطّح وزيرٌ ليطمئننا أن اللبنانيين وحدهم، القادمين من بلاد الغربة، كافون لتحريك عجلة الاقتصاد، هذا فيما نحن نسمع، من الجانب الآخر، طبولَ الحرب تدقّ، منبئة إيانا بحروبٍ آتية، وبأن الآتي أعظم.
وحين نتناسى ذلك كله، مغمضين أعيننا عن تلف حالتنا، ننتبه إلى أن تلك المهرجانات، حيث تفوق أسعار البطاقات، ما لا نقدر عليه بكثير، لا تُقام لنا، نحن الذين تعذّبنا تلك الكهرباء اللعينة التي لم نجد لها حلا بعد أربعين عاما من المعاناة والانتظار، والتي تجعل أصحاب تلك المخلوقات العجيبة الضخمة تتحكّم بنا وبرقابنا، فإذا بها تنقطع فجأة هكذا، من دون سبب، "لإراحة الموتور قليلا"، يجيبنا "الجدع" أو "العتعيت"، زاعقا في وجوهنا وآذاننا، مستبقا بعبوسه أي تعقيبٍ أو اعتراضٍ أو مطلب محتمل.
وإذ يتناوب علينا ذلك البرغش القاتل الذي طوّر آلته السامة، عاما إثر عام، ومُبيداً إثر مُبيد، حتى صار، هو المتجوّل بأريحيةٍ لا متناهية في مختلف بقاعنا، من أكثر الحشرات تطوّرا وفتكا، إن لم يكن من أكثرها بربريةً. فها هو لا يغادر سهراتنا، يمتصّ دماءنا، محوّلا جلودنا إلى حقولٍ من الحكاك والتورّم والعقص. وما أحلاها لحظة، عندما ننهض من فراشنا المبلل بعرقنا، لنجدها تلك البرغشة اللعينة واقفةً خلف رأسنا، ترتاح من عناء امتصاص دمنا، واستدعاء سخطنا وأرقنا، وقد أمسكنا الخفّ على مهل، وضربناها به في التوقيت والسرعة الواجبتين، ورحنا نضحك ظافرين منتشين، منتقمين من تلك البقعة الحمراء الصغيرة، وقد التصقت بالحائط.
وإذ تنقطع الكهرباء، ويصبح مستحيلا تشغيل المكيّف، نفتح النوافذ، راجين برودةً يرسلها إلينا المساء، فتهفّ الروائح الكريهة المتضاربة، المنبعثة من مكبّات النفايات الرسمية، والمكبّات العشوائية، المتروكة على حالها هنا وهناك، لِعبث القطط الداشرة، والجرذان الجائعة، والكلاب المستذئبة، تحرّكها النسائم، فلا نعود نعرف إلى الإله سبيلا: أنقفل النوافذ اتقاءً منها، أم نختنق بحرّ تزيده العتمة بؤسا.
وإذ نسمع أن جيشنا الذي نحبّ ونجلّ، جيشنا الذي بات يشكّل آخر صخرة خلاصٍ لنا، جيشنا الذي نغنج له، كما نغنج لأبنائنا، ذاك الذي نناديه مبتسمين متواطئين "يا وطن"، لأنه في قناعتنا بات آخر ما يمثل في أعيننا الوطن، قد ارتكب ما لا يسرّنا، نشعر بالخذلان والحزن والأسف، إذ كيف ينكّلَ بالمضطهد والفقير اللاجئ في أرضنا، ويميتُ على يده أبرياءً، ترهيبا ودفعا قسريا إلى الرحيل، ولو إلى جحيم الوحوش والغيلان.
ياه، هذا كلّه، فيما المياه منقطعةٌ منذ أيام، لسببٍ لا ندركه، والأخبار التي تردنا من جميل إلى أجمل، ومن رائع إلى أروع، ومن جيّد إلى أجود، وصور الجلسات المنعقدة من حلو إلى أحلى، وصور السيلفي لشعبنا فائضة كالمجارير من فوقنا، والناس مطروبةٌ تتمايل رافعةً أذرعها، محرّكة خصورها، سعيدة بالغناء مع مطربها. الله، يا ليل يا عين...