في فهم أزمة النخب المصرية
ما زالت الثقافة السياسية للنخب عاملًا مهمًا في تحقيق أي خُطى فاعلة تهدف إلى تحقيق الصالح العام للدولة، ولطالما كُتب لبعض تجارب الدول التي تريد إحداث تحول ديمقراطي النجاةَ بفضل الثقافة السياسية للنخب، والتي من أهم مميزاتها تغليب الصالح العام على الميول الأيديويولجية، وإرساء دعائم المواطنة، والمؤسّسية، وحق الانتخاب الحر، والتوافق حول مسار دستوري يحظى بقبول شعبي يؤسس لمرحلة ديمقراطية. وتتمكّن النخب من عقد تحالفاتٍ واتفاقاتٍ، خصوصا في المراحل الانتقالية، تتغلب بها على الاستقطاب السياسي والمجتمعي الذي يفتك بمحاولات التحول الديمقراطي في بعض الحالات، وتحدّ هذه الاتفاقات من إمكانية عودة الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب مرة أخرى إلى سُدة الحكم من بوابة الفرقة المجتمعية، أو رغبة الشعوب في تغليب الاستقرار المجتمعي على بعض الفوضى التي تشوب المراحل الانتقالية، ولو على حساب مكتسبات الحريات السياسية والمجتمعية التي تحققت بعد ثورةٍ شعبيةٍ أو حراكٍ سياسي.
لا تملك النخب المصرية، المعارضة على الأقل، ثقافة سياسية تؤهلها لتحقيق اصطفاف وطني، أو التوافق على مبادئ ديمقراطية
وعلى الرغم من تعدّد مفاهيم النخبة السياسية وتعريفاتها، إلا أنه يمكن الاختصار بالقول إنهم مجموعة الفاعلين في المجتمع القادرين على التأثير في ما يدور في المجال العام، وقد تنوّعت الحالات التي قادت فيها الثقافة السياسية للنخب مسارًا ديمقراطيًا. عربيًا، كانت الحالة التونسية جليةً في قدرة الثقافة السياسية للنخب على تجنيب البلاد مسارًا يعيد المتطرّفين من النظام القديم إلى الحكم، عبر طرقٍ ملتويةٍ كانقلاب عسكري أو الفوز بالانتخابات، بعد تفرّق القوى التي شاركت في الثورة على قضايا هوياتية أو سياسية أثرت في قدرتها على جذب الناخبين، وأفقدت الناخبين الثقة السياسية في هذه النخب. استطاعت النخب السياسية الوسطية في تونس، والمحسوبة، في جزء منها، على النظام القديم مع النخب السياسية المعارضة التي تتبنّى نهجًا وسطيًا أيضًا، أن تتوافق على مسار ديمقراطي، نتج عنه انتخاب سلطةٍ تشريعيةٍ وتنفيذية، ووضع دستور للبلاد، وتجنيب تونس محاولات كثيرة مضنية (موّلت دول عربية معادية للديمقراطية "عربيًا" جزءًا كبيرًا وواضحًا منها) للعودة إلى حقب الاستبداد والقمع. وما زالت النخب السياسية في تونس تحاول الحفاظ على مكتسبات الانتقال الديمقراطي، خصوصا في الآونة الأخيرة التي تهدّد فيها المسار الديمقراطي في تونس.
كانت الحالة المصرية على الطرف الآخر من الحالة التونسية، إذ لا تملك النخب المصرية، المعارضة على الأقل، ثقافة سياسية تؤهلها لتحقيق اصطفاف وطني، أو التوافق على مبادئ ديمقراطية من دون تغليب الانحيازات والميول الإيديولوجية. وإن كان الحديث عن مواقف النخب السياسية المصرية يتطلب بحثًا كبيرًا لا تسمح به هذه المساحة، إلا أنه يمكن تتبع مسارات أزمة الثقافة السياسية للنخب المصرية على أوجه قد تجمل مواقف النخب التي دلّت على ثقافة سياسية لا تعمل من أجل تحقيق مسار ديمقراطي، بل تحترف الاستقطاب السياسي والمجتمعي بين قطبين رئيسيين، إسلاميين وعلمانيين. ولم تملك هذه النخب رؤية سياسية وطنية، بقدر ما عانت من الارتباطات الإيديولوجية والتنظيمية التي أرهقت الساحة السياسية المصرية، خصوصا في الفترات التي تطلبت تقديم رؤى وطنية منقذة، كالمرحلة التي تلت ثورة 25 يناير وسقوط نظام حسني مبارك، والتي أنتجت بشكل مؤقت حالة من ضبط النفس الجماعي collective) restraint ) تحدّث عنها الباحث أدهم صولي، تمثّلت في تعاضد مجتمعي وسياسي، واتفاق على مطالب معينة، مثّلتها حالة ميدان التحرير. وبعدما تولى المجلس العسكري زمام الأمور، بدأت أولى مراحل الاستقطاب السياسي والمجتمعي الحاد في استفتاء 19 مارس/ آذار 2011، تجاوز هذا الاستقطاب فكرة استفتاء شعبي على إعلان دستوري إلى ما هو أبعد من ذلك. ومنذ ذلك الحين، دخلت النخب المصرية مرحلة استقطابية شديدة.
لم تستطع النخب التي أبدت تحيزًا واضحًا لرؤىً بدت أنها علمانية للدولة أن تقدّم تصورًا بديلًا عن "إقصائية الإسلاميين"
انقسمت، آنذاك، النخب المصرية بين معسكرين: إسلامي احترف سياسة "التكويش"، وفضّل المنافسات الحادة غير الخاضعة للتوافق السياسي التي تتطلبها عادة المراحل الانتقالية، وتعامل مع المرحلة الانتقالية كأنها مرحلة رسوخ ديمقراطي، وتسببت رغبة المعسكر الإسلامي في الحصول على أغلبياتٍ ساحقة، ونخبه التي اتبعت سياساتٍ إقصائية في تعميق الشرخ المجتمعي والسياسي الذي أدّى إلى نفور قطاعات كبيرة من تأييد الإسلاميين، إضافة إلى الحملات الإعلامية التي أثيرت ضدهم، وجعلت الإسلاميين أكثر رغبةً في الانغلاق على قطاعاتهم. والثاني هو المعسكر العلماني الذي لم ينجح في الحشد لأفكاره مجتمعيًا أو سياسيًا، وفشل في الحصول على نسبٍ مُقنعة لأنصاره في الاستحقاقات الديمقراطية التي خاضها بعد ثورة 25 يناير، سواء في الاستفتاءات الدستورية أو الانتخابات التشريعية أو الرئاسية، والتي لم تنجح فيها على الأقل النخب التي التزمت المعسكر العلماني في التوافق على مرشح رئاسي واحد، قد يعبر عن تطلعاتها في مواجهة التيار الإسلامي، أو طرح رؤى وتصوراتٍ قد تكون جاذبة أو مقنعة للناخبين. ولم تستطع النخب التي أبدت تحيزًا واضحًا لرؤىً بدت أنها علمانية للدولة أن تقدّم تصورًا بديلًا عن "إقصائية الإسلاميين". بدلًا من ذلك، فضّلت كثير من هذه النخب الاصطفاف مع النظام القديم، واتباع وسائل حشد غير ديمقراطية، تمتّعت بتأييد قوى إقليميةٍ تخشى من قيام ديمقراطية حقيقية في مصر، ودعم إعلامي بدت جليةً في خطابه وتوجهاته معاداةُ الإسلاميين، والرغبة في إسقاطهم بأي ثمن. وفضّلت النخب المصرية التي كانت في عداوةٍ مع الإسلاميين أن تتحالف مع صقور النظام القديم، وأن تعمل ظهيرا مدنيا للانقلاب العسكري المشؤوم في 3 يوليو/ تموز 2013، واصطف السياسي الذي انعقدت عليه الآمال بجانب الجنرال الذي أعلن الانقلاب على أول رئيس مدني منتخب.
تقف النخبة المصرية بغير توافق على حد أدنى من مبادئ قد تؤهلها للاصطفاف ضد النظام العسكري
وكان التوضيح السابق لزامًا للوقوف على الأزمة الحقيقية التي تعاني منها النخب في مصر، وتوضيح أن السبب وراء ذلك هو ثقافتها السياسية المعطوبة، والتي امتدت على النهج نفسه، بعدما قلب نظام العسكر الطاولة على حلفائه من المدنيين الذين استُخدموا لوأد التجربة الديمقراطية في مهدها. وانبرى معسكرا النخب المصرية التي وُضعت في خندق معارضة نظام عبد الفتاح السيسي في كيل الاتهامات وتحميل المسؤوليات عما سبق من أحداث. وظهر كثيرون من نخب (أو ممن جعلتهم الشاشات نُخبًا) يرتزقون من إثارة الأزمات التنظيمية والهوياتية وإثارة القضايا الهامشية. الأدهى الرغبة الجامحة في تزوير التاريخ ومحاسبة الماضي، بشكلٍ ينافي الحقيقة التي ما زال شاهدوها أحياءً، بعضهم غيبتهم المعتقلات، وبعضهم لاذ بالصمت راغبًا أو مكرهًا.
والآن، تقف النخبة المصرية بغير توافق على حد أدنى من مبادئ قد تؤهلها للاصطفاف ضد النظام العسكري، بل تقترب بعض النخب من التفاهم معه شيئًا فشيئا نكاية في الإسلاميين. وكذلك لم تستطع هذه النخب تكوين تيار أساسي مصري، بتعبير طارق البشري، يحاول أن يأتي على الاستقطاب السياسي والمجتمعي الحاد الذي تعاني منه النخب المصرية المعارضة على الأقل، وأحجمت النخب المناط بها هذا الدور عن المشاركة في المجال العام، كونها محاصرةً من بطش النظام السلطوي المصري تارة، ومن معارضة لا تزاول غير الثرثرة.