ثورة يناير بين جيلين
بعد عقد من الثورة المصرية، أصبح من الضروري أن تبدأ مراجعات نقدية ممن شاركوا فيها، ومن الباحثين، لأحداثها، ومراجعة مواقف فاعليها من حركات وأحزاب ونُخب وشباب، فضلًا عن مُساءلة الاستراتيجيات التي سُلكت في المحطات الفارقة من تاريخ الثورة، بالإضافة إلى مراجعة مسارات الفاعلين السياسيين من الثورة، علاوة على الحاجة إلى تقديم النقد الذاتي الذي يتعلق بتقييم المسارات التي اتبعها سابقًا من امتلكوا الفعل السياسي سابقًا، وتصحيح الاستراتيجيات التي تُسلك حاليًا، إن وُجدت، وتقديم رؤى نقدية للماضي وموضعة الحاضر، ومحاولة استشراف المستقبل بشكل يتفادى عثرات الماضي.
تفترض هذه المقالة، وبإيجاز شديد، أن الثورة المصرية طوال عشر سنوات قد أنتجت جيلين، الأول شارك في صناعة ثورة 25 يناير التي جاءت من خارج الممارسات التقليدية للسياسة في مصر إبّان عهد حسني مبارك (على الأقل العِقد الأخير من حكمه)، واستقُطب إلى الممارسات التقليدية للسياسة إبّان المرحلة الانتقالية من خلال القنوات والتجمعات الشرعية التقليدية، كالأحزاب والحركات والائتلافات، ومن ثم أصبح ضحية الاستقطاب السياسي الذي تسبّبت فيه الانحيازات المصلحية للنخب السياسية تارة، بل وجزءٌ كذلك من صناعة الاستقطاب السياسي الذي عجّل بنشوب الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو/ تموز 2013، ولم يستطع تقديم تجربة مستقلة لممارسة الفعل السياسي من خلال تكوين أحزاب أو حركات أو تحالفات فاعلة، إذ جاءت، في معظمها، محاولةً للخروج من تنظيمات تقليدية انتمى إليها بعضهم سابقًا، أو تكوّنات لم تنجح في عبور بعض الاختبارات، كالانتخابات التشريعية، وأذيبت بعد ذلك في جو مليء بالاستقطاب القائم على أسس هوياتية وإيديولوجية، ولم يستطع، منذ ذلك الحين، تجاوز الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي لتقديم عمل غير تقليدي مرة أخرى، ولو من المهجر. والجيل الثاني هو الذي شارك، في سن مبكرة ضمن مرحلة المراهقة وبواكير الشباب، في الثورة المصرية ضمن القطاعات الشعبية والتنظيمية التي شاركت دعمًا وتأييدًا لمطالب الثورة، من دون أن يكون هذا "الجيل" جزءًا من صناعة القرارات أو مجرّد الاقتراب من صانعيها في التنظيمات السياسية الفاعلة، ولم يمتلك كذلك القدرة على صناعة الفعل السياسي، لاعتبارات جوهرية أهمها "حداثة السن"، وعدم وجود خبرةٍ سياسيةٍ ممارساتية.
ثمّة شُحّ في فرص العمل السياسي خارج الأطر التقليدية، خصوصا بعدما انتقل العمل المعارض لنظام السيسي إلى المهجر
يواجه جيلا شباب الثورة المصرية بعد عقد، عددًا، تحديات مشتركة أمام استعادة الفعل السياسي تتمثل في: أولا، الاستقطاب المترسب بين القوى السياسية، والذي جرى، في أحيان كثيرة، على أساس هوياتي أيديولوجي، وليس على أساس الموقف من قضايا الديمقراطية ومبادئها، ولا يزال "الجيل الأول" غير قادر على تجاوزه، وخصوصا القائم على أسس شخصية منه. ثانيا، تقديم العمل الإيديولوجي والهوياتي على العمل السياسي الجمعي، وقد ظل العمل الأيديولوجي والهوياتي على ما هو عليه، بل ازداد تعميقًا بعدما جمع نظام عبد الفتاح السيسي، من خلال أدوات القمع المختلفة، فرقاءَ الأمس في معسكر معارضته، والذي لا بد أن يأخذ صفة العبور على الإيديولوجيا وشكله، أفكارًا وتنظيمًا. ثالثا، شُحّ فرص العمل السياسي خارج الأطر التقليدية، خصوصا بعدما انتقل العمل المعارض لنظام السيسي إلى المهجر، وذلك لعدة أسباب، أهمها عدم امتلاك موارد للعمل خارج الأحزاب والحركات السياسية، واستمرار سيطرة النخب المعارضة وتصدّرها قيادة هذه التنظيمات، من دون إفساح المجال لتصعيد جيل جديد من الشباب، قادر على قيادة العمل المعارض من المهجر. وبدلًا عن ذلك، تستمر النخب التقليدية في تهميش أي محاولات تجديدية، تحت ادّعاء عدم ملاءمة السياق الاستثنائي لمثل هذه الدعوات، وتستمر في قيادة التنظيمات والأحزاب مدة قاربت ثماني سنوات، من دون القدرة على سلوك استراتيجية قادرة على الحد من فاشية نظام السيسي، أو مجرّد تحقيق بعض النجاحات في قضايا أساسية، كقضية المعتقلين السياسيين مثلًا!
أفاد فتح المجال العام فرصة ممارسة عمل طلابي حقيقي، ولأول مرة منذ عقود، في الجامعات المصرية
أمام ما يتبناه هذا المقال من تصنيف شباب ثورة يناير إلى جيلين: الأول أسس لها، والثاني نشأ في ظلها، تنبع أهمية الإشارة إلى الجيل الثاني الذي تكوّن وعيه السياسي في مرحلة محاولة الانتقال إلى الديمقراطية، وتلت إسقاط رأس نظام مبارك، وفي ظل تعدّدية سياسية شبه حقيقية، ومناخ من الحرية غير مسبوق. وقد أفاد فتح للمجال العام هذا الجيل في فرصة ممارسة عمل طلابي حقيقي، ولأول مرة منذ عقود، في الجامعات المصرية، وكذا حرية الانضمام إلى الكيانات السياسية. وعلى الرغم من نشأة وعيه السياسي في ظل الاستقطاب السياسي والمجتمعي الحاد الذي دفع بسيولة حدوث الانقلاب العسكري في يوليو/ تموز 2013، إلا أنه لم يكن جزءًا من صناعة الاستقطاب السياسي الذي أودى بفاعلية الجيل الأول للثورة، وأضاع جهدهم في معارك شخصية، نتيجة سطوعهم النخبوي، ما زالت (المعارك) تُلقي بظلالها في تأريخ الثورة، وجعلت من الصعب حقيقة أن يقود هذا الجيل حراكًا فاعلًا آخر قد يقود إلى تغيير حقيقي، نظرًا إلى الانغماس في الانقسام والمعارك الهوياتية والإيديولوجية والشخصية التي ابتلعت قدرتهم على امتلاك فعل سياسي حقيقي.
استطاع الجيل "الثاني" أن يمتلك فعله السياسي بعد الحملة القمعية الشرسة التي قادها نظام السيسي "مستخدمًا تكتيك قطع الرؤوس" ضد القيادات التنظيمية المعارضة له في 2013، ومن ثم استطاع عزل القيادات التنظيمية عن قواعدها الشعبية، وكانت الفرصة مواتية لأن يقود هذا الجيل حراكًا مقاومًا للسلطة الجديدة في الميادين والشوارع والجامعات، وأن يخرج بنمط مقاوم غير تقليدي، سواء من خلال قدرته على عقد التحالفات في الجامعات المصرية بين الفرقاء السياسيين، أو في إجبار النظام الجديد على مواجهتهم بدرجةٍ من القمع غير مسبوقة، ومن ثم دفع قطاعات كبيرة منهم إلى المعتقلات، ومنهم من استطاع إنتاج تجارب جديدة من داخل السجون، كتجربة "رسائل المعتقلين"، وإلى المنفى الذي ساهم في انفتاح كثيرين منهم على تجارب حققت تحولًا ديمقراطيًا بشكل ما.
تحتاج مصر إلى جيل أقدر على قيادة عمل تنظيمي وطني عابر للأيديولوجيا، وأكثر رغبة في تبني خطاب يرتكز على مبادئ الديمقراطية
"الجيل الثاني لثورة يناير" أقدر على قيادة عمل تنظيمي وطني واصطفافي حقيقي، عابر للأيديولوجيا، وأكثر رغبة في تبني خطاب سياسي وطني، يرتكز على مبادئ الديمقراطية، وليس الانحيازات الإيديولوجية أو التنظيمية التي لا تؤهل لحدوث عمل وطني حقيقي، بالإضافة إلى قدرته على استغلال الفرص المتاحة إقليميًا ودوليًا لمخاطبة الحكومات الديمقراطية التي تتمتع بوجود مجتمعات مدنية حرّة، وترتبط حكوماتها بعلاقات مصلحة مع النظام المصري، من أجل ممارسة نوع من الضغط على الأقل في قضية المعتقلين السياسيين التي لم تشهد حلًا يوقف نزيف الأرواح داخل المعتقلات المصرية. وبعد قرابة ثماني سنوات من الانقلاب العسكري وعمل المعارضة المصرية في الخارج، من دون استراتيجية موحدة (ثورية أو براغماتية)، فقدت وفود المعارضة المصرية التقليدية إلى العواصم الغربية مصداقيتها لدى الحكومات الغربية، بل لم تستطع صياغة ما يمكن أن يكون مقبولًا لدى هذه الحكومات، خصوصا في الفترة التي تلت الانقلاب العسكري ووجود وفود معارضة كانت شريكة في الحكم قبلها بأشهر، من أجل تحقيق نتائج ملموسة في سياق التأثير على النظام المصري.
يحتاج الجيل "الثاني" للثورة المصرية إلى إحداث قطيعةٍ ولائيةٍ مع التنظيمات السياسية التقليدية، من أجل أن يقود عملًا سياسيًا حقيقيًا، فلم يحظَ هذا الجيل بفرصة حقيقية بعد.