منذ إعلان حالة الطوارئ قبل شهرَين تقريباً والتي فُرضت لمواجهة فيروس كورونا الجديد، يلازم أحمد أبو المجد (37 عاماً) بيته في مدينة نابلس، شمالي الضفة الغربية، من دون عمل. وفي حال استمرار منع التنقّل بين المدن الذي اتّخذته الحكومة الفلسطينية، يخشى أبو المجد أن يُضطر إلى طرق أبواب الجمعيات الخيرية حتى يطعم أطفاله، بعد أن أنفق كلّ ما يملك على أسرته المكوّنة من خمسة أفراد.
وأبو المجد كان يعمل منذ نحو عشر سنوات في مشغل لتنجيد الكنبات وفق نظام "القطعة"، في مدينة سلفيت شمالي الضفة، ويتقاضى في نهاية كلّ أسبوع مقابل ما أنجزه من عمل، فيما لا تربطه بربّ العمل أسوة بنحو عشرين عاملاً آخرين في المشغل ذاته أيّ عقود ملزمة للطرفَين، بحسب ما يوضح لـ"العربي الجديد". ويقول أبو المجد إنّ "الخاسر الأكبر في أزمة كورونا هو الطبقة العاملة، خصوصاً عمّال القطعة والمياومة، فالاتفاق مع صاحب المشغل أن تكون أجرتي لقاء ما أنجزه في كلّ يوم ويُحفظ حتى نهاية الأسبوع. وفي أيّام المواسم، أنجز في يوم واحد طقماً أو طقمَين من الكنبات، وثمّة فترات تمرّ علينا يكون الشغل فيها ضعيفاً، غير أنّني أجني بالمتوسّط نحو 500 شيقل أسبوعياً (نحو 140 دولاراً أميركياً). لكنّ العمل متوقف كلياً هذه الأيام، ولا أستطيع أن أطالب ربّ العمل بشيء، فالمشغل متوقّف عن العمل ولو لم يكن كذلك فإنّني لا أستطيع الوصول إليه بعد قطع الطرقات بين المحافظات". يُذكر أنّ ما يتقاضاه أبو المجد يوزّعه على بدل إيجار شهري للمنزل الذي يسكنه وعلى مصاريف المياه والكهرباء وغاز الطبخ، وقد تأقلم مع دخله المحدود. يضيف "لكنّ الدخل توقّف كلياً والمصاريف استمرّت، فلا صاحب البيت يسامحك بالإيجار ولا البلدية بتكاليف المياه ولا شركة الكهرباء وغيرها. ماذا أفعل؟!".
الصورة تبدو أشد قتامة لدى إيهاب الحج صبري (43 عاماً) من إحدى قرى مدينة قلقيلية، شمالي الضفة الغربية. فهو يعمل سائقاً لحافلة صغيرة في روضة أطفال بالمدينة، بحسبّ الحدّ الأدنى للأجور (1450 شيقل أي نحو 415 دولاراً) المقرّ فلسطينياً. وهو يتقاضى 1500 شيقل (نحو 430 دولاراً)، وبعد انتهاء دوامه يعمل بالمياومة في قسم النظافة في مطعم للوجبات السريعة ويتقاضى مبلغاً مماثلاً. لكنّ الجهتَين أغلقتا أبوابهما بسبب أزمة كورونا، وفقد الرجل وهو ربّ أسرة مكوّنة من سبعة أفراد دخله بشكل كلي، وفوق هذا تراكمت عليه الديون وبات في وضع مالي صعب. يقول الحج صبري لـ"العربي الجديد": "أعمل يومياً لأكثر من 14 ساعة في مكانَين مختلفَين في مقابل ثلاثة آلاف شيقل شهرياً (860 دولاراً)، وقد رتّبت أموري العائلية على هذا الأساس، فأسدّد ما عليّ من التزامات وأدبّر أمري بما يتبقّى، علماً أنّ لا مجال لديّ نهائياً لادّخار شيء. فنحن بالكاد نعيش على الكفاف، ومع هذا لم نكن نشتكي أو نطلب مساعدة من أحد". وأخيراً، مع إغلاق المؤسسات التعليمية بما فيها رياض الأطفال وفي الوقت ذاته إغلاق المطاعم، وجد الحج صبري نفسه في وضع حرج جداً، دفعه إلى تسجيل اسمه في قوائم المتضررين في وزارة العمل الفلسطينية، وصار يطرق كلّ الأبواب ليسدّ احتياجات عائلته التي لا تتوقّف، خصوصاً مع حلول شهر رمضان.
بابتسامة ساخرة، يعلّق الحج صبري عند سؤاله عن الاحتفال بعيد العمال، قائلاً: "ماذا تريد أجمل من هكذا عيد؟ كلّنا معطّلون. وعن أيّ عيد تتحدّث ونحن لا نجد قوت عيالنا؟ عندما طلبت زوجتي بعض الحاجيات لرمضان، بكيتُ لأنّني عاجز عن توفيرها للمرّة الأولى في حياتي. لم تمرّ علينا ظروف كهذه قط". ويسأل الحج صبري: "وزارة العمل ونقابات العمّال وكلّ من يتسلق على أكتافنا، إذا لم تقفوا إلى جانبنا اليوم في ظل هذه الجائحة وهذه الكارثة التي حلّت علينا، فمتى تفعلون ذلك؟".
الموت من كورونا أهون من الموت جوعاً
ولا يختلف وضع العمّال في السوق الفلسطينية عن وضع العمّال الفلسطينيين الذين يعملون في الداخل الفلسطيني المحتلّ في عام 1948 ويُطلق عليهم اسم "عمّال إسرائيل". هؤلاء يزيد عددهم عن نحو 150 ألفاً، ويحمل أكثر من نصفهم تصاريح تسمح لهم بالعمل في الداخل الفلسطيني المحتلّ، فقدوا كذلك عملهم بسبب إغلاق حكومة الاحتلال منذ أكثر من شهر المعابر نظراً إلى تفشّي فيروس كورونا هناك.
بالنسبة إلى ساهر نجم من ريف نابلس الشرقي الذي سيكون من ضمن آلاف العمّال الفلسطينيين الذين أعلنت سلطات الاحتلال أنّها سوف تدخلهم بتنسيق مع أصحاب العمل ابتداءً من الثالث من مايو/ أيار الجاري بشرط المبيت فيها لمدّة شهر، فإنّ "الموت من كورونا أهون ألف مرّة من الموت جوعاً"، بحسب ما يؤكّد لـ"العربي الجديد". يضيف نجم: "نحن في بيوتنا منذ شهرَين وقد التزمنا بقرار الحكومة الفلسطينية وانقطعنا عن العمل في الأراضي المحتلة عام 1948 وقدّمنا المصلحة العامة على الخاصة، لكن إلى متى؟ من يسدّد عنّا ما علينا من التزامات وأقساط وقروض؟". يتابع: "بالتالي، فور سماعي بالقرار الإسرائيلي الأخير، سارعت إلى الاتصال بالمقاول الذي كنت أعمل لديه في البناء، وطلبت منه أن يسهّل عودتي إلى العمل".
خيارات دعم العمّال "ضيّقة"
يقرّ الأمين العام لاتحاد نقابات عمّال فلسطين شاهر سعد لـ"العربي الجديد" بأنّ "الوضع الذي تمرّ به الطبقة العاملة الفلسطينية صعب"، ملمحاً إلى أنّ "الخيارات في دعم هؤلاء العمّال ضيّقة والآليات غير واضحة حتى الآن". ويلفت إلى أنّ اتحاد النقابات كان طرفاً في "الاتفاق الثلاثي" إلى جانب وزارة العمل والمجلس التنسيقي للقطاع الخاص الذي تمّ توقيعه في 16 مارس/ آذار الماضي. ويقضي هذا الاتفاق بالتزام القطاع الخاص بدفع 50 في المائة من أجور الموظفين والعمّال عن شهرَي مارس/ آذار وإبريل/ نيسان الماضيَين، بما لا يقلّ عن 1000 شيقل (نحو 285 دولاراً)، على أن يُدفع المبلغ المتبقّي بعد انتهاء الأزمة، وذلك في سبيل الحدّ من الآثار الاقتصادية لإعلان حالة الطوارئ في فلسطين وما رافقها من قرارات صادرة عن الحكومة الفلسطينية لمواجهة انتشار فيروس كورونا. ويقول سعد: "عملنا وما زلنا على حصر العمّال المتضررين لإدراجهم من ضمن قوائم الذين سيحصلون على مساعدات مالية من صندوق الطوارئ الذي نشرف عليه مع وزارة العمل، كذلك خصّصنا مبلغ 1.5 مليون شيقل (نحو 430 ألف دولار) لشراء طرود غذائية توزَّع في المحافظات الفلسطينية على الفئات الأكثر استحقاقاً لها".
يُذكر أنّ وزير العمل الفلسطيني نصري أبو جيش أعلن في 27 إبريل/ نيسان الماضي أنّ 800 شيقل (نحو 230 دولاراً) ستُصرف من صندوق "وقفة عزّ" الذي أُطلق بقرار حكومي، وذلك قبل عيد الفطر لمصلحة 35 ألف عامل من الذين خسروا أشغالهم بشكل كامل من جرّاء أزمة كورونا.
ويبدو أنّ الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم الفلسطيني" قد رصدت مؤشّرات عدّة تدلّ على أنّ أصحاب عمل كثيرين يفكّرون بشكل جدي، في حال استمرار حالة الطوارئ، بتسريح أعداد كبيرة من العمّال، وهو ما يدعو إلى تدخّل عاجل لتوفير الحماية ليس فقط للعمال إنّما للمنشآت الاقتصادية كذلك، خصوصاً الصغيرة منها والمتناهية الصغر، وفق مخاطبة الهيئة لوزير العمل نصري أبو جيش بخصوص الاتفاق الثلاثي، داعية إلى إيجاد آليات تحمي حقوق العمّال وأصحاب العمل.