مرت قبل بضعة أيام ذكرى رحيل الفنان التشكيلي السوري فاتح المدرّس، وقد ذكّر بها تلامذته، وتلامذة تلامذته، فأغرقوا صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، بصور فوتوغرافية التقطوها معه، أو بصوره هو الشخصية في مرسمه مع لوحاته، إضافة إلى كلمات مفعمة بالعاطفة يكتبونها، تُشيد بتجربته المهمّة كفنان مُعلّم.
وهم يعتبرونه قبل أن يكون مُدرّسهم في "كلية الفنون الجميلة" في دمشق، أباً روحياً لهم ومُلهماً، فهو إلى جانب كونه مصوّراً بارعاً، كاتبُ قصة أيضاً وشاعر، وشغوف بالموسيقى وبالعزف على آلة البيانو، وصديق لـ جان بول سارتر!
وفاتح المدرّس مكرّسٌ، برأي أغلب نقاد ومؤرّخي الفن التشكيلي السوري والعربي، على أنه الفنان السوري الأكثر موهبة، كما لا يزال يحظى بشعبية كبيرة بين جمهور هذا الفن. وربما لم يعرف فنانُنا الراحل شهرةً كبيرة خلال حياته خارج حدود بلاده، كتلك التي يعرفها الآن بعضٌ من الفنانين.
لكن، بعد رحيله سنة 1999، صارت لوحاته تُحفاً يتسابق الأفراد، وكذلك الصالات ودور المزادات العالمية على الفوز بها أو تسويقها. فقد ارتفعت أسعار أعماله بشكل مضطرد أو جنوني أحياناً، مع "فورة" سوق الفن في "الشرق الأوسط" في مطلع الألفية الثالثة، حتى تجاوز قبل بضع سنوات سِعر إحدى لوحاته الثلاثمائة ألف دولار أميركي، وقُدّرت أخريات بما يتجاوز المائتي ألف من الدولارات، وهو الذي عرف في بعض فترات حياته ضائقة ماديةً شديدة.
وربما من مساوئ هذا الطلب، أو هذه الفورة في الشراء والاستثمار في سوق الفن، ازديادُ وجود لوحات مزيّفة تحمل توقيعه، كما حدث مع فنانين آخرين من طبقته، كالراحلين محمود حمّاد ولؤي كيالي على سبيل المثال.
هذا الأمر ساهم من جهة أخرى، في التشكيك بأصالة بعض الأعمال التي تعود لما أنجزه في مرحلته الأخيرة المعروف بها، والتشكيك كذلك في القديم منها، كالأعمال السوريالية الأولى في خمسينيات القرن الماضي، التي لا تحمل بصمته التعبيرية ولا مواضيعه التي اشتهر بها.
وقضية اللوحات المزيفة للمدرّس ليست جديدة العهد، بل قضية قديمة كانت معروفة قبل رحيله وازدادت مؤخراً. يؤكد ذلك ابنه الفنان فادي المدرّس، وأرملته شكران الإمام التي رحلت قبل سنتين تقريباً، وبعض المقرّبين منه ممن سوّقوا له أعماله، كالفنان عصام درويش، صاحب صالة "عشتار"، واجتهدوا ويجتهدون حالياً كل من طرفه في عمليات توثيق إرث الفنان الراحل، في محاولة لضبط الأمور، بعدما صار الكثيرون يتردّدون في اقتناء أعماله، خوفاً من عمليات النصب كون بعض هذه الأعمال مزوّرة بشكل متقن.
تقتضي عملية مقاضاة المزوّرين التعاون بين الجميع، لكن ثمّة أمر لا يساعد، ألا وهو، وكما يقول نجل الراحل، أن من يعرف كيف جرت أمور التزوير والتسويق، لا يدلي بشهادته كونه صديقا لهؤلاء: "لا أحد يساعدك في ذلك خوفاً من العداوة، أو مثلما يقولون: ما بدنا نزعل حدا". وربما من لديه معلومات هو أيضاً متورط شخصياً في الأمر.
ولد المدرّس عام 1922 في قرية صغيرة شمالي حلب تدعى "حريتا"، لأب من أسرة إقطاعية، ثم غادرها صغيراً إلى حلب غداة مَقتل أبيه. وفي حلب تعرف خلال دراسته الثانوية، على مدرسي الرسم المعروفين آنذاك، كـ منيب النقشبندي وغالب سالم ووهبي الحريري. ثم اجتاح بمشاركاته بعد ذلك النشاطات في العاصمة دمشق.
درس فاتح في أكاديمية الفنون الجميلة في روما، بين عامي 1954 و1960، ومن ثم "المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة" (البوزار) في باريس، ليعود منها ويعيّن مُدرّساً في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق في عام 1972.
شارك المدرس منذ عام 1947 في عدة معارض جماعية. وقد عرفت سنوات الخمسينيات تمرداً منه على الأساليب الواقعية السائدة، وبدأ إضافة إلى أعماله السريالية المتأثرة بأجواء الفرنسي إيف تانغي، ببناء أسلوبه القائم على الضربة العرضة للفرشاة وتبسيط الأشكال، لتقترب لوحته لمزيج من التجريد والرسوم البدائية، وذلك بعد السنوات التي أمضاها في روما، والتي غيّرت من أسلوبه وتصوّراته. كانت الألوان الحيّة تسود لوحاته: الأحمر والأسود والألوان الترابية.
تحدثت زوجته قبل رحيلها ببضع سنوات، عن مذكرات كتبها الفنان بخط يده، فيها الكثير من الأمور التي لم يُفصح عنها، و"تنطوي على فضائحية ومواقف صريحة وجريئة"، وهي في طور التحرير استعداداً للنشر.
بالتأكيد، لا نبحث عن الفضائح ولكن نود أن نعرف قليلاً عن المزوّرين إن تكلّم خلالها عنهم، وأن تساهم مذكراته هذه ومذكرات غيره من الفنانين الكبار، في إغناء فكرتنا عن تاريخ الفن الحديث في سورية الذي لم يُكتب بعد.
* فنان تشكيلي سوري مقيم في ألمانيا