في بؤس العموميات

27 اغسطس 2018

(أرماندو)

+ الخط -
• تَحوّلَ مصطلح الفساد، وكذا مكافحة الفساد، إلى شيء يشبه مصطلحات الحرب على الإرهاب، وعملية السلام، وخدمة المجتمع المحلي، وغيرها من التعابير التي انتُهكت بالتكرار، إلى أن استُنزفت دلالتها، وتجوّف معناها، وصارت عموميات محَـنّطة، تليق بمتحف شمع، وليس بسجال سياسي حيّ.
• عندما يكون مفهومٌ ما محلّ إجماع الجميع، فإن الإشارة إليه تفقد معناها. أعتى المنخرطين بالفساد وأشد المناوئين له كلاهما يهاجمان الفساد، ويدعوان إلى مكافحته. لا توجد سلطة عربية قائمة، ولا حتى زائلة، لم تثقب أُذُن الجوزاء، وهي تتوعد الفساد والمفسدين. لذلك، لا معنى حقاً لاستمرار الهجوم على الفساد بوصفه عنواناً.
• في علم الحاسبات والرقميات، يتناسب الوزن المعرفي لأي رسالةٍ، أو معلومةٍ، مع صعوبة التنبؤ المسبق بها، وتصبح قيمتها المعرفية صفراً، إذا كانت لا تحمل إلا وجهاً واحداً معروفاً سلفاً. وطبعاً ليس المنخرط في الفساد، أو المعتاش عليه، بحاجة لدراسة علم الحاسبات، ولا العلوم الرقمية، حتى يفهم هذه الحقيقة، فهو يدرك فطرياً أن تشهيره بالفساد ودعوته إلى ضرب الفاسدين هما السبيل الأمثل لتفريغ الدعوة من معناها. يكمن الشيطان أحياناً في العموميات، خصوصاً إذا أصبحت العمومية مظلةً تجمع الشيء ونقيضَه. حصولُ إجماع تام حول شعارٍ ما، بين من يناصرونه بحق ومن يُعادونه في السر، كفيلٌ بتصفير قيمته.
•قد يقول قائل إن ابتزاز المصطلح لا يعني إسقاط المفهوم، وإن مشاركة طبقةٍ سياسيةٍ فاسدة في رفع شعارات ضرب الفساد لا يعني عبثية المناداة بمكافحته، فالتمييز ضروري بين مكافحة الفساد ومكافحة الفساد الحقيقي. المؤسف هنا هو امتلاكنا قائمة طويلة من المصطلحات التي نمت في خواتيمها بالتدريج مفردة "الحقيقي". ولا تبدو هذه الزائدة اللغوية حلاً ناجعاً بالحكم على تاريخ استخدامها، فهي في الغالب محاولةٌ متأخرةٌ لإنقاذ مصطلحاتٍ، إما تميّعت دلالاتها تماماً، أو تكاثرت وتناسلت إلى حدٍّ لم يعد ممكنا معه أن تعني الشيءَ ذاته لأكثر من شخص واحد. يُضاف إلى ذلك أن الأمر مسألة وقت، قبل أن ينقَضّ أساطنة الفساد على مفردة "الحقيقة"، ويُنظّروا بدورهم لأهمية مكافحة الفساد "الحقيقي". ليس الحديث إذاً عن إشكاليةٍ لغوية، ولا عصفاً ذهنيا يسعى إلى إيجاد تسمية جديدة لبضاعة قديمة. يتعلق الموضوع بأهمية
الانتقال إلى مستوىً مفاهيمي، مختلف تماماً عند التعاطي مع قضايا بهذه الأهمية؛ مستوى يستحيل ابتزازه، ولا يمكن للمنخرطين في نهب المال العام أن يتبنّوه، حتى على مستويي التضليل والمخاتلة.
• كيف يواجَه هذا التجوّف الذي يصيب عناوين عامة، بعد أن تتحوّل إلى مشاع فاقدٍ للقيمة، وتصبح مضغة على كل لسان؟ يبدو الحل الأمثل في ترقية التفاصيل، وإسباغ صفة العناوين عليها. هكذا، يزول شعار مكافحة الفساد، لتحل آليات مكافحته التفصيلية بوصفها عناوين جديدة. الأمر أشبه بإنتاج عموميات بديلة، مُحصَّنة ضد السطو وسوء الاستخدام. وأفضل مؤشّر على حصانتها هذه يكمن، للمفارقة، في استحالة الإجماع عليها، وحتمية إثارتها الخلاف. إن خِلافيةَ مقولةٍ ما ليست بالضرورة نقيصة فيها، بل شاهداً على أنها قد تحمل، على أقل تقدير، معنىً حقيقياً ما. وإن غواية الشِّعار العمومي الفارغ أنه يُسهّل جمعَ الناس، ويضمن تَوافقهم. لكنه توافقٌ لا يُنتج في النهاية إلا ما كان علّةَ وجودِه الأولى: الفراغ من جديد.
• ليس بعيداً عن الفساد، هناك مثال آخر على ظاهرة العموميات المجوّفة في هذا الصدد. إذ يكثر الحديث عن أهمية تفعيل المشاركة السياسية، وتنشيط الأحزاب في بلداننا. ولا يجد أحدٌ مضاضةً في تأكيد ذلك، بمن فيهم المنخرطون في تجريف الحياة السياسية، وتحطيم أي فرصة للعمل الحزبي. وإذا ما تجاوزنا هذه العمومية المحنّطة، ونظَرنا أسفلها، فإن طبقاتٍ متتاليةً من التفاصيل تقبع تحتها، قد تبدأ بالانتخابات ونزاهتها، وتمتد، في العمق، إلى تَدَخّل الأجهزة الأمنية في مراقبة الميول السياسية للمواطنين وتصنيفها. وبحسب مستوى الاستبداد في البلد المعني، يمكن تحديد أيٍّ من طبقات التفاصيل هذه ستثير انقساماً، ولن يستطيع مناهضو التعدّدية السياسية تبنيها، حتى من باب التضليل. هناك بالضبط، حيث ينتفي الإجماع، ويستحيل التوافق، ينبغي أن يُعلن الإنسان ميلادَ عنوانه العام. حينها طبعاً، يصبح العنوان مصدر خطر على من ينادي به، وهي فرصةٌ لإعادة اكتشاف حقيقةٍ مُرَّةٍ في سياق العمل النضالي في العالم العربي: أن الكلام الذي لا يستجلب الخطرَ على قائله، ليس كلاماً في الواقع، وإنما صمتاً مفعماً بالضوضاء.
• يمكن للكلام الحقّ أن يُراد به باطل، لكن ليس كل الكلام الحقّ مفتوحاً لعبث الإرادة الباطلة. وأحقُّ الكلام الحقّ هو ما يأبى، ولو غصباً، أن يُراد به الباطل.
4D9D9C06-301F-45C8-A0E3-53AB5D33271B
4D9D9C06-301F-45C8-A0E3-53AB5D33271B
عوني بلال
عوني بلال