في الهجرة - الشهادة

02 نوفمبر 2015
لوحة لكمال بُلّاطه من معرض "وكان النورُ"، لندن، 2015
+ الخط -
بشيء من الشمولية، يجوز أن نقول إن تاريخ الإنسان قاطبة قد انطلق بدءاً بهجرته بين ما عُرف بعالمه الأم وعالمه القادم من الغيب. أكان ذلك في تاريخ مخيلته، كما نشهد في الأساطير التي حيكت في صورة يوليس، وجلجامش وحتى السندباد، أو كان ذلك في تاريخ إيمانه في الديانات السماوية، هذا التاريخ الذي ينبثق بخروج آدم من فردوسه والذي يكتمل، حسب المؤمن، باستحقاقه أرض الجنة. 

هذه الأساطير والمعتقدات التي اعتزّ بها العبرانيون ـ أي الذين عبروا ـ والذين افتتحوا تاريخهم الديني في كتاب سمّوه كتاب "الخروج"، أو عند رُسل عيسى الناصري الذين هاجروا من القدس وانتشروا يبشّرون في أرجاء الأرض، أو عند المسلمين الذين دوّنوا تاريخهم الجليل بدءاً من هجرة النبي العربي.

ولربما صحّ القول إن القرن العشرين كان قد تميّز بتعددية الهجرات وتدفّق اللاجئين في العالم. وكأن تاريخ هذا القرن على الساحتين السياسية والفكرية، قد تمحور حول قضايا الهجرة والمنفى، على الصعيد الجماعي والذاتي، كما أن قادة الفكر في هذا العصر، إن لم يكونوا أنفسهم ضحية التهجير، فقد اختار عددٌ هام ٌ منهم المنفى منفّساً للغتهم التعبيرية حتى كادت مرادفات لغات التعبير المعاصرة أن تتطابق مع المصطلحات المشتقة من تجربة المنفى.

اقرأ أيضًا: ذاكرة محمود وخرافية إيميل

وبالتحديد، يبدو أن أهم التغييرات في العالم الغربي المهيمن التي تتعلّق بتطور النظريات العلمية، والاجتماعية، والإنسانية قد جاءت أصلاً على أيدي ثلاثة من رجالات العصر المنصرم، عاش كل واحد منهم غربته الخاصة داخل المجتمع المسيحي وهم: ألبرت أينشتاين، كارل ماركس، وسيغموند فرويد. وبالمثل، تميّزت محطات الإبداع في وسائل التعبير الغربية على أيدي مبدعين عاشوا مغتربين عن لغة تراثهم الأم وبمستويات متفاوتة، أكان ذلك في نصوص النثر (فرانز كافكا، وجوزيف كونراد وجيمس جويس)، أو الشعر (سان جون بيرس، و ت. إس. إليوت، وفلاديمير ماياكوفسكي)، ولا ننسى أن أعمال أعمدة الحداثة في الفن الغربي في القرن العشرين، ازدهرت خارج موطن الفنان الأم، بدءاً بأعمال الإسباني بابلو بيكاسو الذي اختار فرنسا ملجأً له، وانتهاءً بالروسي روثكو، والأرمني غوركي، والهولندي ديكونينغ الذين اختاروا أميركا موطناً لهم. وإن جاء السائح الفرنسي اليبكسيس دو توكفيل، ليكون أوّل من فسّر أميركا في القرن التاسع عشر، فإن الأميركي إرنست همنغواي، الذي عاش في إسبانيا المقاتلة، كان أدقّ في نقل روحية إسبانيا في لغة القارة الجديدة.

اقرأ أيضًا : ما فعله غونتر غراس

في المنفى، حيث يتنفّس الإنسان فضاءً غير فضائه الطبيعي، يعيش المبدع توترًا لا ينتهي، بصفته يقف وحيداً على شفير عالمين، بين حسّه بالاقتلاع وحاجته للحرية، بين التزامه بالانتماء ورفضه للعالم الذي وراءه، وفي دوامة القلق الذي يزامنه تولّد الأعمال.

وللمنفي العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص، قلق مستديم وغصّات مميّزة، يعرفها كل من احتدّ وعيه بالأضداد التي يعيشها في هذين العالمين، بين حضارة العدو المهيمنة حوله في الخارج، وعلاقته بأمته المفتّتة هناك، حيث يحاصر شعبه بالجدران. ولربما يبقى الأثر الفني والعطاء اليومي في حياة المبدع المنفي العربي عامة، والفلسطيني خاصة، بمثابة الشهادة الأولى والأخيرة في وجدان تاريخنا المعاصر.

لذا، وبعد قضاء ما يقارب نصف قرن من الزمن خارج وطني فلسطين، بعيداً عن معايشة التراث الذي أنتمي إليه، قريباً من تيارات الفكر الذي أنكر وجودي، أترك للذين تتبّعوا مسيرة أعمالي داخل الوطن العربي وخارجه، ليستشفوا ما جامعتُه خلال العقود بين جوهر الجماليات التي تجذّرت في تراثي الثقافي، وما أتنفّسه من حريات في هواء المنفى.

                             ****************

مهما طالت صراعات المنفي خارج الوطن وداخله، فأن يتوخى الإنسان حياة كوزموبوليتانية، قاطعاً ارتباطه مع تفاصيل المحلية الوطنية، والصبابة الجمالية في إرثنا الثقافي، هو حالة مستحيلة. إن عهد المرء أن يعيش حياة صادقة مع نفسه.

                           ****************

يُقال، بعد أن طاف ديوجينس، الفيلسوف الإغريقي المتهكّم، شوارع أثينا حاملاً قنديله بحثاً عن المواطن الصادق، وبعد أن أسلم نفسه للسكن في حوض ماء، جاءه صديقه المنظّر الهندسي أناكساغورس وسأله "ألم يعد يهمك بعد اليوم الارتباط بأرض الوطن؟".
أجابه ديوجينس بكل جديّة: "بلى" وكان بإصبعه يشير إلى السماء.
المساهمون