يعلّمنا تاريخ العالم الحديث الكثير من الدروس، فمثلاً لو أن هتلر انتصر، لاعتبر الهولوكوست أفضل ما أنجزته البشرية منذ خلق الله الإنسان، بدلالة تنظيف العالم من الأجناس المتدنية والشريرة، وسوف يصبح ترسيخ كراهية اليهود، وتشريع معاداة السامية من الأعمال المجيدة، ما يشمل تبرئة أميركا من حملات الإبادة على الهنود الأصليين، والنهب الاستعماري لثروات "البلدان المتخلّفة" تحت زعم إدخالها إلى الحضارة، بالتالي لن تكون مغامرات الأميركان والروس العسكرية في بلدان العالم إلا قيام إمبراطوريات تحمل شعلة التقدّم الإنساني، والادّعاء أنه حصل تحت راية الأخلاق.
الزعم بتوافر الحسّ الأخلاقي في الغرب، أكثر منه في بلادنا، حقيقة لا شكّ فيها، ليس لأن الغرب أخلاقي، ونحن نفتقد للأخلاق، بالعكس نشهد وفرة في الأخلاق في مجتمعاتنا، بسبب حضور الدين والعائلة، وأعراف لا تقلّ عنهما، تحضّ على فعل الخير من دون مقابل، أو عدم توقّع الجزاء إلا في يوم الحساب. أمّا لماذا تراجعنا وتقدّموا في هذا المضمار؟ فليس بالعجيب ولا بالغريب، أن سيادة القانون تحفظ الحقوق، فالأخلاق ليس مكرمة نتبرّع بها، وإنما خصال نتصف بها، فنحن لسنا ملزمين بفعل الخير، بينما نحن ملزمون بالتقيّد بالقانون مع الفارق بينهما، ما يثبت أنه في غياب القانون، تتخلخل المفاهيم الأخلاقية، وقد تغيب، فالقانون يدعمها ويكرّسها.
إن أفضل ما اكتسبه الإنسان، خلال مسيرة البشرية، ما ينسب إلى الوعي بالقانون، وكان في تفعيله انتصار للأخلاق، وإلقاء الكثير من الأعباء عنها، وإسنادها للقوانين. لذلك ليس من العبث القول؛ لا قانون، من دون أخلاق وأعراف وروادع، إنها بمجموعها تشكّل، عتبة المدخل إلى عالم القانون. ولا ريب في أن التأكيد عليها يُسهم في الإحساس بما يجعلنا ندرك ما لنا وما علينا، والتأثّر ليس بما يصيبنا فقط ، بل ما يصيب الآخرين أيضاً. فالأخلاق عدا أنها تسدّ ثغرات تصلّب القانون، لا تعود تخصّ الشخص وحده، بل تخصّ المجتمع والدولة والعالم.
ومن الفطنة، ألا يغيب عنا، أنهم في الغرب يتحايلون على القوانين ويحاولون التهرّب منها، مع أنهم يعتبرون أنفسهم متفوّقين أخلاقياً، فيستغلّونه في البناء عليها، ما يوحي باعتقاد خطر، وهو أن أيّ عمل يقومون به، مهما كان هذا العمل، فالطبيعي أن يكون أخلاقياً. مع أنهم كانوا الأقدر على العبث بها، والنجاة حتى من الشعور بالذنب، بذريعة أنها من طبائع الأمور، ما يشمل طبائع الحروب، فيتغاضون عن جرائم الكونترا الأميركية وفاغنر الروسية، فالحروب تتطلّب مقاتلين، ما يوفّر عليهم زجّ جيوشٍ ضخمة، واندلاع نزاعات مسلحة بين الدول.
فمثلاً الحرب الدائرة في سورية والعراق لا تستلزم توريط الدول الكبرى في حرب محلية أصبحت إقليمية، ما يسمح أيضاً بمشاركة مليشيات مذهبية، توازي بأفعالها ما ارتكبته داعش، ما يشكّل تبريراً فجّاً للارتزاق من القتل، غير أن المجرمين سواسية، فإجرام داعش لا يبرّر إجرام مرتزقة فاغنر. فالجريمة لا تبرير لها، مثلما لا يبرّر الإسلام إقامة داعش خلافة دموية، ولا تبرّر المسيحية إرهاب فاغنر بالتمثيل بالجثث. وقد تكون واحدة من أكبر الجرائم التي ستمارس تحت أنظار العالم، هي تأهيل النظام السوري للعودة إلى المجتمع الدولي، بسعي من روسيا وموافقة ضمنية من الأميركان.
إن في محاولات تبرئة النظام السوري، إغفال للعدالة، وإجحاف مطلق بمئات آلاف الضحايا، إنها وبجميع المقاييس جريمة أخرى تفوق ما سبقها وقاحة. ما يحيلنا إلى عالم بلا حضارة ولا أخلاق، إذ لا حضارة من دون سوية أخلاقية، أما عندما تنحدر، أو تتآكل، فبوسعنا الحديث عن حضارة منحطّة.