27 أكتوبر 2024
في السياسة وفي علم السياسة
في سالف الزمن، حيث كان هناك بعضٌ من بصيص الأمل في التغيير السياسي، سافر باحثٌ سياسي من بلد عربي، يُزاول عمله في بلاد الاغتراب، للقاء مع معارضين سياسيين من بلده الأصلي، والمتصدرين للمشهد، والذين كانوا يحسبون بأنهم يُديرون العملية السياسية في هذا البلد الذي كانوا يظنون أيضاً بأنه على أبواب تغيير جذري، سرعان ما أوصدت، بسبب عوامل معقدة ومتشابكة، ساهموا هم أنفسهم في وصولها إلى هذه النهاية المؤقتة.
ترك الباحث عمله، وأسرع الخطى إلى مطار بلد اغترابه، واستقل، وعلى حسابه، الطائرة الأولى إلى عاصمة استضافة المعارضين، أو المتصدّرين للمعارضة، وانتقل مباشرة إلى فندقهم، ليجتمع بهم في هيئتهم المُديرة. وفور دخوله عليهم، بادروه بالتحية والابتسامة المتردّدة، وطالبه بعضهم بأن يُسرع في عرض تحليلاته، واستعراض مشروع سياسي عمل عليه مع أكاديميين وخبراء في مجالات عدة، دستورية وأمنية واقتصادية ومواطنية.. إلخ. وارتبطت هذه المطالبة، أساساً، بناءً على ما أورده أحد المشاركين، بأن لمطعم الفندق، حيث يقيمون، موعداً محدداً لتقديم طعام الغداء، وبالتالي، يجب عدم تجاوز وقت معين يسمح للسادة المشاركين (ولوحظ انعدام وجود سيدات بينهم) بالتهام طعامهم، واحترام وجبتهم المقدّسة. كما أوحى آخرون للباحث المنحوس بأنه لم يخترع الدولاب، وبأن خبراتهم السياسية تتجاوز علومه. وبالتالي، أحبطوه بدايةً، وقبل أن يباشروا بالاستماع إلى ما حمله من أفكار ورؤى.
قام الباحث بأداء واجبه العلمي والوطني، وشارك الحضور بما حمله من نتائج علمية، ظن هو وأترابه بأنها يمكن أن تفيد مسارهم، وتعزّز من مقدراتهم السياسية، أو تساهم في إغناء فرصهم في اختيار البدائل. وفور انتهاء مهمته، غادرهم مسرعاً باتجاه المطار، متأثراً بجرعةٍ من الإحباط الذي استشفّه من خلال ضعف الاهتمام والملاحظات الأولية التي تم استقباله بها، بشأن أهمية ما يحمل أو حول موعد الغداء.
وعاد، في طريق عودته، بالذاكرة إلى التفكير بتأثير مراكز الأبحاث في العلوم السياسية، وفي العلاقات الدولية في بلده الثاني الغربي، على صانعي القرار. وتذكّر، وطائرته تحلّق فوق
الفندق الذي استضافه في جلسة إحباط مؤسفة، كيف أنه أعدّ ورقة متابعة سياسية وتقدير حالة، عندما كان طالباً في الدراسات العليا في بلد التبني الثاني، بناءً على طلب رئاسة الجمهورية في البلد نفسه، تحضيراً لزيارة رئيسها، المنتخب ديمقراطياً، إلى إحدى الدول العربية ذات الحكم الاستبدادي، وما أكثرها. كما استعرض، في ذهنه المشوّش والمُصاب بصدمة، دور المراكز البحثية في الدولة الديمقراطية التي يعيش فيها، أو التي يعرفها، حيث يعد باحثون عالمون بمواضيع تخصصية أوراقا تحليلية، أو قراءات لمواقف سياسية معينة، ويقدمونها إلى أصحاب القرار، بعيداً عن أي طموح سياسي أو رغبة ذاتية في الوصول إلى أي موقع في هذا البلد.
لا تحتاج ظاهرة اهتمام السياسيين بعلماء السياسة في الدول الديمقراطية إلى إيراد دلائل كثيرة، ولمن يطلع على منتجات المراكز البحثية الأساسية في العالم الديمقراطي، وحتى في روسيا غير الديمقراطية، يمكن له أن يقرأ بوضوح تأثيرها على آلية صنع القرار لدى الحكومات، ولدى الأحزاب في الحكم أو في المعارضة.
من المفترض منطقياً أن اللجوء إلى هذه الآلية، وهذه المسارات، لا ينتقص البتة من مقدّرات السياسيين والسياسيات المحترفين في التحليل، أو في اتخاذ القرار أو في استبيان المواقف أو في استشراف المستقبل في مختلف الملفات. كما أنه من الملموس أن هؤلاء لا يجدون في الباحثين منافسين لهم أو أنهم يمثلون خطراً ما يمكن أن يؤثّر على ذواتهم، وعلى الأنا الذاتية المتضخمة نسبياً لدى هذا أو ذاك من العاملين في المشهد العام.
في المقابل، في الدول غير الديمقراطية، خصوصاً العربية منها، لدى المسؤولين، أو حتى لدى
المعارضين الساعين نظرياً إلى الديمقراطية، مرضٌ مشترك: الخشية من المعرفة. كما أنهم يتميزون، مشتركين، بالخوف وبالشك ممن يحمل علماً في السياسة، وفي العلاقات الدولية خصوصاً، كما هم يخشون ويشكّون بمن يحمل علماً بالإطلاق. وإن كان هذا الأمر "منطقياً" لدى المستبد الذي يخشى بشكل عضوي من العلوم الإنسانية، لأنها تُشكّل خطراً على استبداده وسطوته على الدولة وعلى المجتمع، فهو يبدو مفاجئاً وصادماً إن تم التعبير عنه من أطرافٍ تسعى، أو تدّعي أنها تسعى، إلى الدولة الديمقراطية.
في المطلق، ونظرياً، لدى السياسي مهام جسام، وهو يتحمل مسؤولياتٍ كبرى على مستوى الإدارة والتقرير والتنفيذ. وبالتالي، لديه، نظرياً، القليل جداً من الوقت المتاح للبحث في عمق الملفات، وفي استنباط النتائج من القراءات المطوّلة، وبالتالي، من المفترض، نظرياً أيضاً، أن يستند هذا السياسي إلى خبراء وعلماء يحضرون الملفات ويختصرون القراءات. يصبح النظري عملياً ومحققاً لدى من لديه همٌ وطني وقناعة بأنه يقوم بوظيفةٍ عامة للخدمة العامة. أما من يستحكم بأمور البلاد، ويستبد بأمور العباد، فلا حاجة له إلى كل هذه "الترّهات".
ترك الباحث عمله، وأسرع الخطى إلى مطار بلد اغترابه، واستقل، وعلى حسابه، الطائرة الأولى إلى عاصمة استضافة المعارضين، أو المتصدّرين للمعارضة، وانتقل مباشرة إلى فندقهم، ليجتمع بهم في هيئتهم المُديرة. وفور دخوله عليهم، بادروه بالتحية والابتسامة المتردّدة، وطالبه بعضهم بأن يُسرع في عرض تحليلاته، واستعراض مشروع سياسي عمل عليه مع أكاديميين وخبراء في مجالات عدة، دستورية وأمنية واقتصادية ومواطنية.. إلخ. وارتبطت هذه المطالبة، أساساً، بناءً على ما أورده أحد المشاركين، بأن لمطعم الفندق، حيث يقيمون، موعداً محدداً لتقديم طعام الغداء، وبالتالي، يجب عدم تجاوز وقت معين يسمح للسادة المشاركين (ولوحظ انعدام وجود سيدات بينهم) بالتهام طعامهم، واحترام وجبتهم المقدّسة. كما أوحى آخرون للباحث المنحوس بأنه لم يخترع الدولاب، وبأن خبراتهم السياسية تتجاوز علومه. وبالتالي، أحبطوه بدايةً، وقبل أن يباشروا بالاستماع إلى ما حمله من أفكار ورؤى.
قام الباحث بأداء واجبه العلمي والوطني، وشارك الحضور بما حمله من نتائج علمية، ظن هو وأترابه بأنها يمكن أن تفيد مسارهم، وتعزّز من مقدراتهم السياسية، أو تساهم في إغناء فرصهم في اختيار البدائل. وفور انتهاء مهمته، غادرهم مسرعاً باتجاه المطار، متأثراً بجرعةٍ من الإحباط الذي استشفّه من خلال ضعف الاهتمام والملاحظات الأولية التي تم استقباله بها، بشأن أهمية ما يحمل أو حول موعد الغداء.
وعاد، في طريق عودته، بالذاكرة إلى التفكير بتأثير مراكز الأبحاث في العلوم السياسية، وفي العلاقات الدولية في بلده الثاني الغربي، على صانعي القرار. وتذكّر، وطائرته تحلّق فوق
لا تحتاج ظاهرة اهتمام السياسيين بعلماء السياسة في الدول الديمقراطية إلى إيراد دلائل كثيرة، ولمن يطلع على منتجات المراكز البحثية الأساسية في العالم الديمقراطي، وحتى في روسيا غير الديمقراطية، يمكن له أن يقرأ بوضوح تأثيرها على آلية صنع القرار لدى الحكومات، ولدى الأحزاب في الحكم أو في المعارضة.
من المفترض منطقياً أن اللجوء إلى هذه الآلية، وهذه المسارات، لا ينتقص البتة من مقدّرات السياسيين والسياسيات المحترفين في التحليل، أو في اتخاذ القرار أو في استبيان المواقف أو في استشراف المستقبل في مختلف الملفات. كما أنه من الملموس أن هؤلاء لا يجدون في الباحثين منافسين لهم أو أنهم يمثلون خطراً ما يمكن أن يؤثّر على ذواتهم، وعلى الأنا الذاتية المتضخمة نسبياً لدى هذا أو ذاك من العاملين في المشهد العام.
في المقابل، في الدول غير الديمقراطية، خصوصاً العربية منها، لدى المسؤولين، أو حتى لدى
في المطلق، ونظرياً، لدى السياسي مهام جسام، وهو يتحمل مسؤولياتٍ كبرى على مستوى الإدارة والتقرير والتنفيذ. وبالتالي، لديه، نظرياً، القليل جداً من الوقت المتاح للبحث في عمق الملفات، وفي استنباط النتائج من القراءات المطوّلة، وبالتالي، من المفترض، نظرياً أيضاً، أن يستند هذا السياسي إلى خبراء وعلماء يحضرون الملفات ويختصرون القراءات. يصبح النظري عملياً ومحققاً لدى من لديه همٌ وطني وقناعة بأنه يقوم بوظيفةٍ عامة للخدمة العامة. أما من يستحكم بأمور البلاد، ويستبد بأمور العباد، فلا حاجة له إلى كل هذه "الترّهات".