في الحاضر الميت
في قصيدته الطويلة والبوليفونية التي ألّفها الشاعرُ اللبنانيّ الراحل، محمّد العبدالله (1946 – 2016)، تحت عنوان "مصرع دونكيشوت"، يقول الفارسُ الخرِف، محاربُ طواحين الهواء، إنّ حبيبته "دولسينيا مدينة / مطفأة وحزينة". وفي هذا التشبيه توصيف معبّر لأكثر من مدينة عربية اليوم، ولبيروت تحديدا التي قصدها الشاعرُ في زمن الحرب.
أجل، بيروت حبيبة، مطفأة وكئيبة، تجول في بعض أحيائها القديمة الجميلة ليلا، فتشعر بانقباضٍ يبعثه سحرٌ آفل، حيث يحضن شجرٌ مورقٌ الأرصفة، وتُهدهد نباتاتٌ معرّشة وحشةَ بيوتٍ ساكنة، وتعبث روائحُ الفتنة والياسمين والغاردينيا ببقايا صورٍ كلّها من النيغاتيف. وإذ تنعطف فجأة إلى شارع يُقفله حاجزا جيش محوّلين إياه إلى بقعة للمشاة، ترى من البعيد أناسا يجلسون على طاولاتٍ قليلة توزّعتِ الرصيفَ، وهم يتناولون أطباقا خفيفة، يتنادمون الكؤوسَ ويتسامرون بلغاتٍ غريبة، مدركا أنهم في الغالب أجانب ما زالوا يعملون هنا، مأخوذين بسحر شرقنا ولمّا يغادروه بعد.
أمسك بيد ابنتي، وأروح أحثّها على رفع نظرها إلى العمارات القديمة على الجانبين، تُجاورها أبنيةٌ حديثةٌ مرتفعة، في مزيجٍ هجينٍ بتّ، بعد نفوري منه ماضيا، أجده من أجمل ما يكون. أريد لعينيها أن تتشبّعا بهذه المشاهد، أن تحفظا هذه النسمات الباردة في قلب شهر يوليو، وأن تتذكّرا يدي القابضة على يدها، ونحن نتقدّم معا داخل هذه الهدأة المشتهاة.
كلّما أخذتُها إلى قلب بيروت، رُحت أخبرها أشياءَ من ذاكرةٍ ليست لي، أستفيض في تفاصيل المكان الذي حفظته محروقا ومقصوفا، قبل أن أعيد نقله إلى الزاوية السليمة الوحيدة التي تبقّت من ذاكرةٍ متفحّمة سوداء. نمرّ ببيوت قديمة لم يحُفظ بعضُها لولا أنّ ثمّة من حوّلها مطعما، ونخاف عليها، إذ نجدها فارغة من روّادها، على وشك أن تقفل أبوابها لكي تسلم نفسَها للخواء.
نودّع مدينةً قد لا تتوفّر لنا فرصة مغادرتها، مدينةً لن نغادرها حتى وإن ركبنا الطائرة وابتعدنا آلاف الكيلومترات. لا أريد لابنتي أن تنسى مدينتها. أريد لها أن تنسى لبنان. أريدها أن تتذكّره دوما وفي أدنى تفاصيله. هنا طفولتها. جدّتها. أولى خطواتها. لا تنسيْ، انسيْ، أقولُ لها في سرّي، هكذا على رواحٍ ومجيء، حدَّ الإنهاك. يجب أن أعلّمها الخفّة، الانغراز، التفلّت، الانتماء، أشقى في هذا ولا أرتاح إلا بعد أن أتذكّر أن ذاكرتها لها وحدها، وأنها لا تنصاع لي، ولا حتى لها.
أجل، لقد بتنا في الذاكرة لأنّ الحاضر مفقود. زمننا لا حاضر فيه، كما كتب الزميل وسام سعادة في صحيفة القدس العربي تحت عنوان "زمن كابوسيّ لا حاضر له ولا مخرج منه إلا بالخيال"، قائلا: "وقد وصلنا إلى المستقبل. نحن في زمن لا حاضر له. نحن في المستقبل. المستقبل المباع سلفا إلى درجة ما عاد فيها هذا المستقبل حين ندخله قابلا للتحوّل إلى حاضر يدفعه إلى الماضي مستقبل جديد. البيع المديد لمستقبلنا أدخلنا في لحظة المستقبل المعلق، لبلد لم يعد له مستقبل". ليس من كلام أكثر دقةً في توصيف حالنا اليوم. ما يعنيني حقا هو هذا الفقد المخيف للحاضر. الحاضر ميت، جثة متحلّلة، الأحرى أنه مفقودٌ مثل آلافٍ فُقدوا في أثناء الحرب. ثمّة من خطف الحاضر وأفقدنا معنى العيش. مأزقنا ليس سياسيا فقط، مأزقنا وجوديّ. من دون حاضر، نحن في متاهة، في انعدام الزمن، في اللاشيء، في الفراغ. نحن اليوم في لحظة اختلال عميق. لحظة اعتلال. بين ماضٍ مضى ومستقبلٍ لا يجيء. في وقت آسن، لا يحيا فيه شيء.
ثمّة من أخذ على الزميلة ديما صادق تقريرَها المصوّر عن موجة الهجرة الآن من لبنان، واعتبره دعوةً إلى ترك البلاد. ثمّة من لا يفهم هذا الإحساس في العيش داخل متاهةٍ لا وجهة لها، داخل كابوس، في اللاوقت، في اللامعنى، في اللاحياة. لقد غلبَنا الوحشُ، وغلبتنا الغيلانُ، وغلبنا السوءُ، وغلبنا الكذبُ. سواء غادرنا أم بقينا، نحن في اللامعنى الوجوديّ الفظيع، في العجز التام، في العبَث السَّامّ، وفي موتِ حاضرٍ يحوّلنا تماثيلَ ملحٍ وأشباحَ هَباء .