31 مايو 2017
في أطروحة "التفاؤل الأكثري" القاتلة
كما في السنوات السابقة الماضية، تنتاب الجزء الأكبر من المعارضين السوريين، مجدّداً، نوبات من التفاؤل المفرط بقرب سقوط النظام السوري في أيّة لحظة، استنادًا إلى خسارات النظام وحلفائه القريبة العهد في إدلب ودرعا. فإذا كان صحيحًا أنّ هؤلاء باتوا يجدون أنفسهم في ورطة حقيقية، على المستوى العسكري خصوصًا، مع انحدار للمعنويات النفسية في صفوف مؤيديهم بشكل كبير، فإنّ الطرف المقابل دائمًا ما يميل إلى التغاضي عن قراءة الوقائع على الأرض، واستسهال قدرات من يواجهون وحساباتهم بسبب إيمان صوفي مفاده بأنّ الأكثريّة "السنيّة" ستفوز بشكل تلقائي وسحري، في النهاية، لأنّها...أكثريّة!
ومن أجل عدم السقوط في أوهام كهذه، تقفز فوق دول وتواريخ وطبقات ومصالح متشابكة متضاربة، فتحيل البشر، بكلّ تعقيداتهم، إلى حبات من البطاطا ساكنة ومتشابهة، تنتظر على رفّ التاريخ، يجب دائما تحليل الجزئيّات من خلال المعطيات الكُلّية الكبرى: أي لكي نفهم التحوّلات السياسية على الأرض، كما في سورية، يجب أن نفهم ماهية المتغيّرات "الصلبة" التي تبنين الصراع والتي هي، وحتى إشعار آخر، تحالف للإمبرياليّة الأميركيّة مع الاستعمار الإيراني ومكوّناته في كلّ العالم العربي. فمن خلال تحليل الوضع بهذا المعنى، يمكننا تفسير الثقة الكبيرة بالنفس التي يبديها حزب الله وإعلامه الحربي في طمأنة النظام السوري، عند القول إنّ "سقوط نظام الأسد في سورية يعني سقوط الحزب كذلك"، ذلك أنّ حزب الله الذي يذهب الآن إلى معارك طويلة الأمد ومكلفة في القلمون، لا يفعل الأمر بسبب "الأهمية الاستراتيجية" للمنطقة، بل لأنّ هناك معطيات تشير إلى أنّ الأخير واثق بأنّ دعمًا قويّا سيأتيه عما قريب، فقد كانت معركة القلمون دومًا قائمة كإمكانيّة له، لكنها لم تحدث إلا اليوم بالتحديد، لماذا؟ السبب الأكثر منطقية أنّ إيران تريد أن تظهر دعمًا سريعا للنظام، وأن تحقّق ما تظنّ أنه سيكون أسرع انتصار ممكن لها في هذه الفترة الانتظاريّة، ما قد يحقّق انهيارًا نفسيّا عند أعدائها بعد اندفاعهم الأخير.
إذ لا يبدو أنه أصبح من الكافي بمكان أن يقوم "حزب الله" وإيران في طمأنة النظام السوري، بعد ما تبيّن من تعاظم للخلافات الداخلية في النظام، وما تردّد من ملامة متبادلة بين النظام السوري والإيرانيين، ومن موت "مفاجئ" واختفاء "قسري" لعديدين من رجالات النظام في الفترة الأخيرة. لذلك، طمأنت الولايات المتّحدة نفسها النظام بشكل مباشر منذ أيّام، عندما أوصلت "مصادرها" إلى جرائد عربيّة، خبرًا مفاده بأنّ "إدارة الرئيس باراك أوباما "قلقة وغير مرتاحة على الإطلاق" لانتصارات المعارضة السورية و"جيش الفتح"، وبأنّ "الإدارة الأميركية وتحديداً البيت الأبيض بأعلى مستوياته غير مرتاح للتغييرات في المشهد السوري". (جريدة "الحياة"، 9 مايو/أيار 2015)، ولا بدّ أنّ النظام السوري تلقى الرسالة.
ولتفسير ما يحصل، لا يجب أن يغيب عن أعين الجميع أنّ نظام أوباما "الديمقراطي" هو من سيقوم رئيسه الذي وصل إلى حدّ تهديد إسرائيل بإسقاط طائراتها إن حاولت قصف المنشآت النووية الإيرانية (صحيفة الجريدة" الكويتية 28 فبراير/شباط 2015) نقلًا عن وزير إسرائيلي "قريب من نتنياهو" حينها، وحتى الآن لم يتمّ نفي الأمر من أيّ جهة رسمية إسرائيلية) باستعمال صلاحياته في رفع العقوبات عن إيران، من أجل إعطائها 50 مليار دولار قرابة آخر شهر يونيو/حزيران (والأرجح قبل ذلك)، حتى لو كانت إرادة الأغلبية الجمهورية في الكونغرس، "ممثل الشعب" الأميركي، ترفض "الإطار" النووي، إذ ترى أنّه لن يغيّر شيئا من حقيقة أنّ إيران "قويّة ومعافاة"، مع حدّ أقصى من 150 مليار دولار، محرّرة من أرصدتها المجمدة، والتي ستمتلك لا محالة القنبلة الذريّة قريباً، ستستمر أكثر في التوسّع الاستعماري ("وول ستريت جورنال"، مايو/أيار 2015). لا شكّ في أنّ هذه الأموال التي ستقبض بشكل سائل ومباشر ستذهب، في جزء كبير منها، إلى تمويل الدعم العسكري الإيراني في لبنان وسورية والعراق واليمن. لذلك، فإنه خلافًا لتوقعات معارضين سوريين كثيرين يفسّرون كل خسارة لمعركة في الحرب بأنها تنبئ بانتصار عظيم قادم لا محالة، فإنه إذا لم تتغيّر وقائع الأمور جذرياً سنشهد خلال الأشهر المقبلة، على الأرجح، ضخّ أموال ومرتزقة وإيصال موارد كافية للنظام السوري، ومن يقاتل معه. وذلك يعني، أيضًا، إذا ما حدث أنّ الحرب في سورية ستطول مجددًا.
قبل كل شيء، يجب فهم أنّ ما يحدث تحت سطح الحرب "السنية-الشيعية" الطافية على السطح في كل مكان، ما عدا اليمن، إنّما تحدّده الثنائية البعدية لقاعدة الصراع القائم، والتي قِوامها: الإمبريالية (الأميركية)-القوميّة (الإيرانية). بالتالي، يجب أن تموضع النظرة الصحيحة إلى الصراع على هذا المستوى: تنبّه للإمبريالية الأميركية التي تدعم الاستعمار الإيراني بشتى الوسائل وفي كلّ الساحات، وتظهير للمركّب القومي العربي كمواجه أكثر جذريّة للإيرانيين من التنطّح المذهبيّ الأعمى. فالأطروحة التي تقول إنّ "الأكثرية السنيّة" هي التي "ستنتصر لا محالة"، لأنّها أمر "طبيعي"، تمامًا مثل قوّة الجاذبيّة الأرضية، على ما يروّجه مشايخها الاستراتيجيون ومحللو طرقها الصوفيّة، خصوصًا في أوساط المعارضة السوريّة المبكرة النبوغ، إنّما تحوي فخًا كبيرًا قد يكون وبالًا عليهم: إذ من المرجح أنّ الإيرانيين الذين يفهمون تماما مركزيّة هذه المشكلة العدديّة حاولوا، وسيحاولون، الغرف من هذه "الأكثريّة" بالتحديد، عبر "شراء" مقاتلين عرب "سنّة" أكثر إلى صفوفهم، تحت عناوين شتى، من قبيل "الحرب على الإرهاب" وما شابه، مستغلين الفقر المدقع لتلك الأغلبية (موقع "عربي21"، 10 سبتمبر/أيلول 2014). ذلك سيكون ممكنًا أكثر، خصوصًا مع توفّر كم هائل من الأموال قريبا، تمامًا كما فعلوا في اليمن مع بعض القبائل هناك، وكما يحاولون، اليوم، مع جزء من العشائر "السنية" في العراق واللاجئين السوريين.
وفي هذه المناسبة، من المهم لفت الأنظار إلى نوعية رد فعل الإيرانيين المتوتّر على المناشير التي ألقتها طائرات قوات التحالف العربية فوق اليمن، حين اتّهم علي شامخاني، عضو مجلس الأمن القومي الإيراني والمستشار المقرّب من المرشد الأعلى خامنئي، السعودية، باستخدام "تكتيكات تخويف" تعود إلى "الحرب الباردة"، لأنّ مناشيرها كانت تقول: "أخي اليمني، هدف التحالف الحقيقي هو مساعدة الشعب اليمني ضدّ التوسّع الفارسي". ربما نسي كثيرون من العرب "السنّة" ذلك، لكنّ شامخاني، الإيراني الأهوازي الأصول والذي يتحدّر من عائلة عربية، لم ينس قط أنّ الجيش "العربي" العراقي، أيام نظام صدّام حسين، هو الذي انتصر على جيش إيران، وكان الجزء الأكبر منه عربًا "شيعة"، وكان حينها أكثرية محازبي حزب البعث الحاكم هناك من "الشيعة".