31 مايو 2017
السياسة اللبنانية والعَبَث المتعدد بالمرأة
ما حدث، أخيراً، في نهاية حلقة برنامج المحاورات السياسيّة في لبنان "كلام الناس" من ذكر مقدّم البرنامج، مرسيل غانم، نكتة ذكورية، مع ضيفه وزير الأشغال، وما تلاها من ردود أفعال مستهجِنة ذلك، مثال على الطرق الملتوية التي يتمّ بها كلّ يوم عَبَثَ لاعبين اجتماعيين مختلفين بالقضيّة النسويّة، لأسباب لا علاقة لها بمصلحة الكتلة الساحقة من النساء في لبنان، سواء أكان هؤلاء من النخب المشبّعة بإيديولوجية ذكوريّة علنيّة، أم كانت من النخب التي تتبوّأ التصدي لتلك الأولى، بصفتهن مناضلات نسويّات. وهنا، كما سيتّضح السبب في النهاية، أستَعملُ تعبير العَبَث لعلاقة ذلك بكلمة أخرى هي العبثية، فما حصل، وعلى الرغم من عاديّته الظاهرة، إنّما يخفي، في الحقيقة، أمورًا غير عاديّة أبداً.
نبدأ من الطرف الاساسي الذي أشعل مواقع التواصل الاجتماعي، وأصدر البيانات المندّدة التي نشرتها وسائل الإعلام اللبناني، وهو تكتّل من الجمعيّات، يضمّ حوالي 150 "إن جي أوز" (جمعيّات بتمويل دولي أو محلّي) تشكّل في ديسمبر/ كانون الأوّل 2016، مسميًّا نفسه آنذاك "التحالف الوطني لدعم المشاركة السياسية للنساء". على الرغم من حقيقة أن حساب التحالف في "تويتر" لا يمتلك أكثر من 33 متابعًا، فلا أقل من وزيرة سابقة هي التي تتولى أحيانا الظهور الإعلامي للنطق باسم جبهة المنظمات الدولية -المحلية هذه. وبالتعمق أكثر في بروفايلات الناطقات باسم التحالف، نجدهنّ إمّا نساء شغلن مناصب عامة أو هن من اللواتي تطمحن إلى ذلك، كما نجد بينهنّ محاميات صاحبات دخل مادي عالِ، وإعلاميّات يترأسن جمعيات "إن جي أوز" "تعنى بحقوق المرأة والطفل والديمقراطية"، وجميعهن تمتلكن علاقات وثيقة الصلة بالنخب المالية والسياسية والقضائية في لبنان والخارج. والأسلوب الطاغي على
موضوعيًا، نحن في حضرة نساء تتموضع مساراتهنّ المهنيّة خارج القنوات الزعاماتية اللبنانية المألوفة للترفيع السياسيّ. هن لسن زوجة زعيم أو شقيقة نائب تم اغتياله لتحصلن بشكل أتوماتيكي على المقعد النيابي كما يحصل عادة، خصوصا أنّهن، وبحكم الصورة التي يقدّمنها عن أنفسهن (صورة المرأة المستقلّة العاملة للمساواة الحقوقية الكاملة مع الرجل)، يبتعدن عن الصورة النمطية لعلاقة الاستزلام المباشرة السائدة. من الواضح إذ ذاك أن طموح بعضهنّ وصل إلى درجة العمل بشكل منظّم ودؤوب، لكي يصبحن نائبات في مجلس "ساحة النجمة". لكن، من المهم أيضًا الإدراك أنّ السبب الأساسي الذي يقع خلف تنظيمهنّ الذاتيّ على هذا النحو الكتلويّ، هو أنّ ممثلي النظام الزعاماتي السائد، حتى لو أرادوا بكل نية طيبة (غير موجودة حتما) إشراكهنّ في المجلس النيابي، فهم لا يمتلكون القدرة على امتصاص أعدادهنّ الكبيرة في تكتّلاته القائمة على قواعد مذهبية ومناطقية، تحتوي أصلًا على كمية فائضة من الذكور الذين يمثّلون منافع للزعماء من رجال أعمال وأصحاب شركات ومصرفيين وأبناء عائلات سياسية تقليدية إلخ. وأعداد هؤلاء الذكور أكبر بكثير من المقاعد الـ128.
وما يحدث هنا أنّ تلك النخب النسائية (بالمعنى السوسيولوجي للكلمة) تتمّ إزاحتهنّ بشكل أتوماتيكي ومسبق مما يسمّى "النظام"، أي مجموع مصالح النخب الحاكمة. هذه نخب نسائية تمتلك طموحًا سياسيًّا للاشتراك في العمل الديمقراطي النيابي، وهذا من حقّهنّ وحقّ أي مواطن بالطبع. لكن، يصدف كذلك أنّ "الحصّة النسائية الاجبارية" (40 مقعدا نيابيّا) التي يسوّقنها تمثّل مصلحة شريحة من النسوة اللواتي يرتبطن بدرجةٍ، تزيد أو تنقص، بمصالح النخب الحاكمة إعلاميا وماليًّا، والتي ترتبط بشكل أوثق بكثير بعلاقات ثقافية وسياسية ومالية مع الجهات الدولية المختلفة التي تموّل جمعياتهنّ في لبنان. وهكذا، فإنّ إقرار مشروع الحصّة النيابية النسائية الاجبارية يمثّل، بالنسبة لكثيراتٍ من أولئك النسوة الطموحات، الطريق الوحيدة الممكنة للحصول على المقعد النيابي: "الكوتا" هي هنا وسيلة للضغط بالجملة على "النظام"، ليأمل بعضهنّ بالحصول على المنافع بالمفرّق.
إذن خلف هجوم "التحالف" على ذكوريةٍ لا تخجل من نفسها، كالتي عند مارسيل غانم وضيفه، ثمّة ما هو أعمق وأكثر إصرارًا بكثير من مجرّد "الدفاع عن المرأة ضدّ الذكورية". لدينا هنا
لكلّ هذه الأسباب مجتمعة، يمكن الاعتقاد كذلك أنّ الهجوم على إعلامي معروف، مثل مرسيل غانم، كان في ليلة سابقة على الحادثة نفسها، يقدّم حلقة تلفزيونية حول "اليوم العالمي للمرأة" والقيام "بشجب ذكوريته" (هو قال فعلا نكتة ذكورية متهافتة) هو أمر يمثّل مصالح نخبٍ تحلم بأن تصير أن تكون جزءا من الطبقة الحاكمة، أكثر مما لها علاقة مباشرة بقضية المرأة الأوسع في لبنان.
كل ما سبق مثال مهمّ وحيّ ويومي على العَبَث الإعلامي ذي الطبيعة شبه- الحربية فيما يخصّ القضية النسوية الذي يقوم به جزء من النساء الطموحات من جهة، كما النخب الحاكمة من جهة أخرى. والسؤال هو: إذا كان الظرف الحالي فرصة ذهبية لخوض معركة حاسمة، من أجل حصولهن على مقاعد النيابة، فهل دخولهنّ "ساحة النجمة"، إن حدث وحصل في ظلّ النظام اللبناني كما هو، سيغيّر من وضع المرأة اللبنانية بشكل عام؟
أقول ذلك لأنه لا يمكن الشكّ، مثلًا، بأن كثيرات في "التحالف" (أو خارجه) لسن أقلّ جدارة من الرجال الحاليين النواب. لكن، للأسف، أعتقد أن آمالهن عبثيّة لأسباب مختلفة تماما. ففي أفضل الحالات، إذا ما حدث وتمّ إقرار الحصّة النسائية الإجبارية، وهذا بحدّ ذاته لكي يرى النور عليه أن يخضع لاعتبارات شبه إعجازية، تتعلّق بحسابات الأطراف السياسية لغنيمتها من المقاعد النيابية، حسب القانون المعتمد، فإنّ المقاعد التي يمكن إعطاؤها للنساء لن تتجاوز ثلاثة أو أربعة مقاعد من كتلة "الزعيم" الذي سيكون عليه أن يجد مصرفيّات أو مالكات لشركات تابعات له بالعدد الكافي (ما سيسبب غضب الرجال الذي تم استبعادهم، وهو ما يجب حساب نتائجه من "الزعيم"). هذا سيعني أيضا أنه سيكون في لبنان، على الأرجح، "حصّة نسائية إجباريّة" أقلّ بكثير، فلنقل 10% بدل 30% من المقاعد على أحسن تقدير، أي 13 مقعدًا، ما يعني 10 مقاعد إضافيّة في كلّ لبنان، إذا ما نزعنا مقعدين أو ثلاثة للواتي هنّ أخوات لنائب متوفى مثلا. كل هذا سيبقي، في أحسن الأحوال، مقعدين أو ثلاثة في كل كتلة ستتنافس عليهنّ نساء يخترهنّ "الزعماء". وبالتالي، ما سيؤدي إليه مشروع "التحالف"، في أحسن الأحوال، هو زيادة طفيفة للحصة النسائية في كتل الزعماء النيابية، وستكون المرشّحات بالطبع من الأكثر التصاقًا بسياسة الزعيم. مجددًا إنها القاعدة الأبدية للسياسة اللبنانية تتحقق، حتى في حالة القضية النسوية: عَبَثُ يؤدي دومًا إلى عبثيّة سوداء...لكن، فلتطمئن جميع النخب، القديم منها والجديد: النظام اللبناني وصل إلى حالة من الانسداد الذاتي، إلى درجة أنه حتى حصول عبثية سوداء كهذه بات ترفاً، لا يمكن السماح به.