فوضى الأفكار

06 مايو 2017
(سور مدينة فاس، تصوير: زوركسو لاباتو)
+ الخط -

وإذا كانت الأفكار عملت عملها العميق في العصور الماضية، حيث كانت كل ناحية من نواحي العالم منفصلة عن بعضها، ولم تكن هناك وسائل لمعرفة ما يتحدث به الناس وما يفكرون فيه، في كل جهة من جهات الأرض- فإن العصر الحديث زاد في قيمة الأخطار التي يجلبها تنوّع الآراء والنظريات إلى حد أن أصبح الفكر في أزمة من فوضى التفكير التي يحدثها تعدّد الجواذب التي تكتنف العقل وتهاجمه من كل جانب.

لقد أصبح العالم أمام كل واحد منّا؛ يستطيع رجل الشارع أن يعرف من أخبار أقصى نواحيه ما لم يكن كبار العلماء والرحالين يعرفونه بالأمس، وبما أن لكل ناحية من هذه النواحي مشاكلها الخاصة وأحداثها ومدارج تطوارتها وما ينشأ بها عن كل ذلك من آراء ووسائل لتحقيقها- فقد أصبحت أنباء ذلك جميعه تنتقل في كل الأوساط، ويضطر الكل لقراءتها في الصحف وسماعها من المذياع، والخوض فيها والتعليق عليها والإصغاء إلى الذين يتحدثون عنها.

وهكذا يصبح المرء أمام خليط من المسائل وعديد من المشاكل تشغل باله وتضاعف بلباله، فلا يكاد ينتهي للحكم على واحدة منها، ولكنه كثيراً ما يقتنع ببعض التعليلات التي يتحدث له بها أو ببعض الحلول التي تنقله من الحيرة إلى نقطة ارتكاز لا يدرك عمقها، ولكنه يرضى بها ريثما يجد ما ينقله عنها إلى فكرة ثانية توجّه نظره إلى التأمل في مصير هذا الكون الذي لم يعد يسير في الطريق المستيقمة التي كان عليها الأسلاف، مع أن الواقع أن المسألة ليست مسألة زيغ أو اهتداء، ولكنها مسألة تراكم القضايا وتعدد المشاكل علينا؛ إذ أصبحت كل شؤون العالم وأهواله قضيتنا نستمع إليها وننظر لأطوارها ونستنتج ونقارن ونرفض ونرضى، ثم لا يزيدنا ذلك إلا حيرة وارتباكاً.


* مقطع من كتاب "النقد الذاتي" لـ علال الفاسي الصادر عام 1952، ويكشف عن حالة الارتباك المعرفي أمام مخترعات حديثة كالتلفاز والمذياع فتحت قنوات الأفكار في العالم. ويمكن مقارنة هذه الحالة مع ما نشعره اليوم نحو السرعة اللحظية التي تتيحها شبكة الإنترنت وما أسفرت عنه من أدوات "اتصال" و"تواصل" تضاعف من "فوضى التفكير التي يحدثها تعدّد الجواذب التي تكتنف العقل وتهاجمه من كل جانب" (المحرر).

دلالات
المساهمون