فوبيا الملف غير المكتمل
وديعة فرزلي
اعتدت بحسب التقليد السنوي أن أضع في بداية كل عام قائمة بالكتب التي أنوي قراءتها في العام الجديد، وتكاد رواية "المحاكمة" لفرانز كافكا الكتاب الدائم على هذه القائمة، لأني في كل مرة أقرأ فيها هذه الرواية أجد نفسي عالقة في الفصل السابع أو الثامن، أدعها جانباً على أمل العودة إليها في وقت لاحق، لكني لم أستطع ولا مرة حتى الآن قراءتها حتى النهاية. مع العلم أني قرأت أغلب الدراسات النظرية التي كتبت حول هذه الرواية والمرفقة معها في الطبعة الموسعة ترجمة إبراهيم وطفي، الصادرة عام 2004. قد يظن بعضهم أنها حجة لا أكثر تنم عن الكسل والتقصير تجاه واحدة من أهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين، إلا أن قراءة هذه الرواية كانت تصيبني بتشنج عصبي وتوتر يمنعاني من إكمالها، وربما ذلك خير دليل على الأثر الكافكاوي الذي يعكس عبقرية الكاتب، لكنه ليس مبرراً كافياً لينفي عني تهمة الكسل.
في أول زيارة لي إلى إحدى الدوائر الحكومية في ألمانيا من أجل تسوية أوراق الإقامة، والتي انتهت بسلسلة من الإجراءات القانونية والأوراق التي يجب استكمالها... شعرت بتشنج وانقباض معوي، يشبه الشعور الذي يصيبنا أثناء اللحظات المصيرية التي نختبرها خلال حياتنا، ولأن الخيال يجمع الصور في الذهن بآلية معقدة، استرجعت في خيالي يوزوف. ك - بطل رواية "المحاكمة" الذي استيقظ في صبيحة عيد ميلاده الثلاثين ليجد نفسه معتقلا.. فهمت حينها أنها ليست مصادفة أن تكون المفردة التي تعني "المحاكمة" في اللغة الألمانية وهي (Der Prozeß) هي ذاتها الكلمة التي تعني "العملية" وهي مجموعة من إجراءات يتوجب فعلها للوصول إلى غاية ما، وأدركت أن خلال هذه العملية البيروقراطية لتسوية أوراقي ستتم محاكمتي على الأقل على المستوى اللغوى المجرد.
مكاتب نظيفة تشبه بعضها، أرضيات مفروشة بالموكيت (الرمادي غالباً) لا تصدر أي صوت عند السير عليه، لائحة أرقام إلكترونية تظهر عليها أرقام الانتظار، تعئبة طلبات لا معنى لها، انتظار موافقة من إحدى الجهات لترسلها إلى جهة أخرى ليسمح لك بإجراء أمر ما، اللهجة الباردة التي يُجاب بها عن استفسارات المراجعين الملحة، الذين يحاولون التوصل إلى معرفة ما المطلوب منهم تماماً وما هو مستقبل هذه المرافعات/ الإجراءات، ذلك عدا عن الأوراق التي لا تسلم باليد بل يجب إرسالها بالبريد، مما يذكرك بالجملة السورية الشهيرة "روح حطها بالديوان!"، وغيرها من المعادلات الموضوعية للبيروقراطية السورية، للمصنف الأخضر، السلسة اللامنتهية من التواقيع، الطوابع، البيان العائلي، والبيان المالي... التي تمضغ وقتك على مهل، تشتت انتباهك عما هو جوهري، وتضعك موضع الاتهام أو التهرب من القانون في حال نقصت ورقة ما، لأن ملفك هذا يختصر كيانك البشري، أنت الشخصية الاعتبارية بينما ملفك هو الشخصية الحقيقة التي تمثلك و تنطق باسمك...ألا يشعرك هذا بالتوتر؟ ضيق التنفس؟ التشنج المعوي؟
هذه هي البيروقراطية الألمانية التي يتكلم عنها الجميع، ويخجل المهاجرون الشكوى منها، لأنهم يعرفون أن أهلهم في داخل سورية يعانوا الأمرين من الظروف المعيشية الصعبة، لكن في الوقت ذاته تشعل بداخلك غضباً مجبولاً بالذعر، إما لأنها تعدك بالمكآفات السخية إذا كنت مطيعاً وملتزماً...أو لأنك تعرف أن لها من الجبروت والقوة ما يجعلك تبدو هزيلاً أمامها.
وكل مرة اشتكيت لأصدقائي الذين جاؤوا قبلي وخضعوا لهذه العملية (البروسس) ، أسمع منهم كلمة وحيدة "بكره بتعودي.." مؤكدين على صحة كلمات الناقد والفيلسوف، كارول ساورلاند، في إحدى دراساته عن أدب كافكا "ماذا يبقى لفرد يواجه جهاز سلطة مثالياً؟ في الواقع فقد ما يبقى لمؤمن إزاء الله: الخشوع، الاستسلام لقدره والإيمان بصحة ما هو قائم والتماهي مع بنى السلطة. يجب عليه أن يدرك أن كل كفاح ميؤوس منه". ماذا لو لم أعتد؟ ماذا لو اعتبرت فوضوية؟ ماذا لو كانت هذه المدونة تطاولاً وقحاً على "جهاز السلطة المثالي".