شماعة الحب الصوفي
وديعة فرزلي
سألتها: "وما الذي أثار إعجابك في رواية كهذه؟". نظرت إلي وبدأت تستفيض بالشرح عن شمس الدين التبريزي، المتصوف، الزاهد، المحب، المتسامح وعن قواعد العشق الإلهي التي وضعها والتي تصلح لكل زمان ومكان، وكيف أخذ بيد جلال الدين الرومي ليجداً الطريق إلى الله الذي يبدأ بطهارة النفس والروح التي تسكنها... سألتني "ألم تعجبك؟" أجبتها باقتضاب: "شخصياً لم تنل الرواية إعجابي لكني أقرأها بقصد البحث". ارتسمت علامات الاستغراب على وجهها وتابعت حديثها في محاولة لإقناعي بنور الحب الإنساني المنبعث من هذا الكتاب، والذي بات يثير الغثيان في نفسي أكثر من أي شيء آخر. أنقذتني المحطة التي أقصدها، أطفأت شاشة التابلت، استأذنت من الصبية وخرجت إلى الشارع مستعجلة.
الحاجة الملحة للسلام الداخلي التي يلتمسها الناس من الفلسفة الصوفية في ظل التغيرات المتسارعة، الأجواء التنافسية المشحونة في مجتمعاتنا، والاستناد إلى شيء من اليقين في هذا العالم المتبدل والمتشكك، حاجات يمكن فهمها وتقديرها، إلا أن الميوعة، صارت الانطباع الأولي الذي يتبادر إلى الذهن عند مصادفة اقتباس ما على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي من رسالة ابن عربي "الذي لا يعول عليه" ، أو البيت الشهيرة للحلاج "أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا"... وغيرها من الأمثلة التي تحثنا على الانخراط في دائرة العشق الإلهي، والإيمان بطاقة الحب القادرة على تحقيق أحلامنا. وكأن تداول هذه الاقتباسات يندرج ضمن سلسلة تبييض الصفحة الشخصية والصورة الاجتماعية، والاحتماء بالحب الكوني والقيم الإنسانية المثلى من أجل تبرير تجاهلنا لجرائم إنسانية أشد فظاعةً تحدث في هذا العالم. ناهيك عن المعرفة المنقوصة بالصوفية، واعتماد الأعمال الروائية كمراجع تاريخية لمعرفة سيرة جلال الدين الرومي كما في رواية "قواعد العشق الأربعون" أو عن محيي الدين بن عربي في رواية "موت صغير".
وإذا كان الدرويش في الصوفية، هو الشخص الزاهد، الفقير، الذي يتخلى عن المتع الدنيوية من أجل كشف المحجوب والاتحاد مع الله، فالدرويش في اللغة العربية المحكية مفردة نستخدمها عادةً لوصف الشخص الذي أصابته اللوثة، ولم يعد يمتلك قدرة على تمييز الأمور الخيرة من السيئة فيسهل خداعه أو سرقته أو الاعتداء عليه. وباعتقادي أن هذه المفارقة تختزل رأياً في التصوف، فأي محجوب يمكن أن نكشفه بالزهد والتأمل، وأي نور يمكن أن نبصره إذا فقدنا كرامتنا الإنسانية في حياة التسول.
يورد المفكر والفيلسوف الإيراني، علي شريعتي، أحد أكثر الآراء تطرفاً في مسألة الزهد في كتابه "النباهة والاستحمار"، فيصنف الزهد واحدة من وسائل الاستحمار الديني "لأنه يأمر الإنسان أن يترك حقوقه الاجتماعية وحاجاته الطبيعية على حدة، ويقطع حبل الأمل منها جميعاً!... ويدعو الناس جميعهم إلى ترك حقوقهم والتخلص من حطاط الدنيا لصالح أعدائهم". وسواء كنا من المعجبين بالفلسفة الصوفية أم لا، يجب علينا الاعتراف بأن الشعرة التي تفصل بين الابتذال والتبني لهذه الفلسفة والأشعار الصوفية انقسمت، وصارت الاقتباسات المجتزأة والمغلوطة أحياناً من أقوال وأشعار المتصوفة مبتذلة ومكررة إلى حد يفرغ هذه الأشعار من معناها ومن رسالتها، لاسيما أن هذه الأشعار بحد ذاتها تنطوي على معنى ثوري في لحظتها التاريخية، وكانت سبباً وراء تكفير وإعدام بعض المتصوفة.