كشفت دراسة جديدة في فرنسا عن ارتفاع أعمال العنف المعادية للسامية ثلاث مرات خلال الحقبة ما بين 2004-2013، مقارنة مع حقبة 1994-2004، إلا أن الخلاصات التي توصّلت إليها الدراسة تثير الكثير من الشكوك، إنْ في النتائج المعلنة أو في قراءة هذه النتائج والأرقام، وخصوصاً أنها لا تتحدث أبداً عن الإسلاموفوبيا، فيما تدّعي أن درجة التديّن لدى مسلمي فرنسا تحدّد درجة عدائهم وكراهيتهم لإسرائيل.
التقرير الجديد، عن اللاسامية في الرأي العام الفرنسي، أصدرته مؤسسة التجديد السياسي، برئاسة مديرها العام، دومينيك رْييْني، وقد حضرت "العربي الجديد" الإعلان عن هذا التقرير. وصدر التقرير بعد عشر سنوات من "التقرير حول مكافحة العنصرية واللاسامية"، الذي أشرف عليه الدبلوماسي السابق جان-كريستوف روفين، عام 2004.
وكان تقرير روفين قد توصّل إلى استنتاج مفاده تدنّي مستويات ممارسات العنف المعادية للسامية لدى اليمين المتطرف، مقابل تصاعد هذه الأعمال لدى قسم من الشباب المهاجر.
أما التقرير الجديد فقد اعتمد على تحقيقَي رأي أنجزتهما وكالة "إيفوب"، الأول أجري على الهاتف على عيّنة من 1005 أشخاص يمثّلون فرنسيين تتراوح أعمارهم بين 16 عاماً وما فوق، بينما أجري التحقيق الثاني على عيّنة من 575 شخصاً وُلدوا في عائلات مسلمة، فرنسية أو غير فرنسية، تعيش في فرنسا، وتتراوح أعمارهم بين 16 عاماً وما فوق.
وعلى الرغم من أن التحقيقات المنتظمة للجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان تُسجّل تراجعاً في الأحكام المسبقة المعادية للسامية لدى الرأي العام، إلا أن المعطيات الجديدة تُظهر ارتفاع أعمال العنف المعادية للسامية ثلاث مرات خلال حقبة 2004-2013 مقارنة مع حقبة 1994-2004، وبالتالي فإن العنف المُمارَس ضد اليهود في تصاعد.
يعترف التقرير الجديد بأن مسألة معاداة السامية وكره الأجانب والعنصرية تُطرَح من جديد في أوروبا وفرنسا خصوصاً، ويعزو أسباب تصاعد هذه الظواهر إلى العولمة التي أثّرت على المجتمعات الغربية على المستويين المادي والثقافي.
كما أن التأكيد على المجتمع متعدد الثقافات ساهم في زعزعة الغربيين بشكل عام والأوروبيين بشكل خاص، إضافة إلى أن الشيخوخة الديموغرافية تبدو عاملاً إضافياً للخوف.
ويشير إلى ظهور عامل جديد، لم يكن موجوداً بقوة أثناء تقرير 2004، وهو شبكة الإنترنت، إذ أصبح دورها، بسرعة، مُحدِّداً في ميدان المعلومة وأيضاً في ميدان الالتزام السياسي وتعبئة المناضلين والتعبير عن الموقف بصفة عامة وبشكل احتجاجي خصوصاً.
ويلفت الى مثال الفكاهي الفرنسي ديودوني مبالا (يؤخذ عليه تصريحاته التي يراها معادية للسامية)، وقدرته على الانتشار في الشبكة بشكل رهيب. ولكن التقرير لا يتحدث عن المنع الذي تعرّض له مبالا في تقديم مسرحياته، من أعلى الهرم السياسي، وأيضاً المنع الاستثنائي في الشبكة، إذ أُقفلت صفحاته في موقع "فيسبوك" ومُنِعت أفلامه في "يوتيوب".
ويقول التقرير إن مبالا لم يكن حاضراً بقوة، عام 2004، زمن تقرير روفين، كما يستعرض الاعتداءات التي تعرّض لها اليهود أثناء صيف 2014، أي خلال العدوان الإسرائيلي على غزة. ولكنه يغفل دور المنظمات والميلشيات اليهودية المسلّحة في فرنسا (رابطة الدفاع اليهودي) في إثارة العنف، كما أنه لا يقول كل الحقيقة عما وقّع أثناء تظاهرات باريس المحظورة ومدينة سارسيل، والتي وجدت فيها المنظمات الإسلامية نفسها في موضع الدفاع عن النفس، ولا يزال الكثير من أفرادها ضحايا محاكمات.
ويطرح سؤالاً حول ما إذا كانت القوى الديمقراطية تستطيع تعليم ونشر والدفاع عن القِيَم التي تؤسسها، أي الحفاظ على بقائها. وبهذا المعنى فإن مكافحة العنصرية ومعاداة السامية لا تستجيب فقط لضرورة حماية الأفراد أو المجموعات التي تُعتبر ضحايا، بل وتستجيب أيضاً للحاجة المطلقة في تأمين وجود النظام الديمقراطي في القرن الجديد.
ولا شك في أن اليهود في فرنسا يتعرضون لأعمال عدائية، وأن اليمين المتطرف في قسم كبير منه مسؤول عن هذه الأعمال والاعتداءات. ولكن الخلاصات التي توصّل إليها التقرير تثير كثيراً من الشكوك، إنْ في النتائج المعلنة أو في قراءة هذه النتائج والأرقام.
فالتقرير لا يتحدث أبداً عن الإسلاموفوبيا، ويكتفي بالحديث عن العنصرية وكره الأجانب، في حين أن المسلمين يتعرضون لعنصرية جديدة نشأت بعد عام 2004، أي بعد صدور تقرير روفين، وبعد حظر الحجاب في المدارس. ثم إن وضع العنصرية ضد العرب والسود مع العنصرية ضد البيض تثير نوعاً من التوجس، فأي عنصرية يتعرض لها البيض، في فرنسا، وهم المالكون لكلّ القرارات والسلطات؟
كما أنه استثمر فترة ما بعد حرب غزة مباشرة، حين لم يكن الدم الفلسطيني قد جفّ، ولا شيء تحقق من وعود مصر وإسرائيل لتخفيف الحصار، وكانت العودة إلى الحرب واردة.
أما التحقيق الثاني الخاص بالمسلمين (الذي أُجري على 575 شخصاً)، فيخرج بنتائج غريبة تتمثل في أن درجة التديّن لدى مسلمي فرنسا تحدّد درجة عدائهم وكراهيتهم لإسرائيل (أي كلما كان المسلم الفرنسي متديّناً كلما كانت مواقفه عنيفة ضد اليهود).
وهذا أمر لا يمكن التحقق منه، وهو غير صحيح لاعتبارات كثيرة، منها أن التحقيق جرى وجهاً لوجه، وهو عكس التحقيق عن طريق الشبكة أو الهاتف، كما أن المساجد في فرنسا، في عمومها، أثناء مجازر إسرائيل في غزة، لم تَدْعُ إلى التظاهر، بل على العكس، دعت إلى الانكفاء وضبط النفس.
ومَنْ حضر تظاهرات باريس وغيرها تضامناً مع غزة، لا بد أن يلاحظ حضور جمهور شاب لا يرتاد المساجد، ولا أثر كبيراً للتديّن على وجهه وتصرفاته.
يقدّم التقرير الكثير من الخلاصات من دون أن يفسّر الدوافع، فحين يرى مثلاً أن مناصري جبهة اليسار وناخبيها، التي يترأسها جان لوك ميلونشون، من أشدّ المعادين لليهود في فرنسا، لا يتحدث عن الانتقادات التي تلقاها هذا السياسي الفرنسي من المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، واضطراره أخيراً إلى توجيه انتقاد علني قاسٍ لهذه المنظمة الموالية لإسرائيل، مطالباً الجميع بإظهار الولاء لفرنسا، ورفض تفوق أية مجموعة بشرية، سياسية ودينية، على أخرى.
كما توجد في التقرير أسئلة طريفة تكشف عن أن المسلمين ليسوا فعلاً معادين للسامية، إذ عبّر 67 في المائة من المسلمين عن تأييدهم تدريس المحرقة بحق اليهود في المدارس الفرنسية، على الرغم من أن إسرائيل تمارس المحرقة نفسها ضد الفلسطينيين.
من يقرأ التقرير جيداً يكتشف أن المغاربة والمسلمين هم الأكثر تعرّضاً للعنصرية مقارنة بمجموعات أخرى. ويرى 51 في المائة من المستطلعين أنه يوجد أكثر من اللازم من المغاربة والمسلمين في فرنسا، في حين أن 16 في المائة فقط يقولون الشيء نفسه عن اليهود. كما أن 35 في المائة يرون أن مكافحة معاداة السامية تحظى بأهمية أكبر من محاربة العنصرية.
يُذكر أن التقرير قسّم مسلمي في فرنسا إلى ثلاثة مستويات؛ ذوو الأصول الإسلامية، والمسلمون المؤمنون، والمسلمون المؤمنون والمتدينون، ما يطرح كثيراً من الأسئلة حول دقة هذا التقسيم، إذ لا يوجد تحديد واضح لمفهوم التدين.
كما لا يمكن وضع عائلة مسلمة فرنسية في سلة واحدة مع أخرى مسلمة غير فرنسية، إذ إن درجة التديّن لدى الواصل حديثاً إلى فرنسا تختلف عن تديّن المنحدر من بلدان أخرى.
ولكن التقرير يدعو إلى محاربة كل أنواع العنصرية والإقصاءات، فلا يمكنه فهم اليهود في معاناتهم أفضل من المسلمين والسود والآسيويين، الذين يواجهون وضعاً يومياً قاسياً. كما أنه يمكن أن يدفع مسلمي فرنسا إلى التفكير في حالتهم، ومجابهة الإسلاموفوبيا، التي حاول الكثيرون من ممثلي الطبقة السياسية الفرنسية التغاضي عنها ورفض التلفظ بمصطلحها، إلى أن فَرضت عليهم الوقائع والأرقام هذه الحقيقة المخيفة، وهذا ما اعترف به رئيس الوزراء الفرنسي السابق ألان جوبيه، أخيراً، والكثير من يسار الاشتراكيين.
وما المنتدى الدولي لمحاربة الإسلاموفوبيا الذي سينعقد في باريس يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 2014 في جامعة باريس الثامنة، والذي ستشارك فيه شخصيات أكاديمية مرموقة من الولايات المتحدة وإسبانيا وبلجيكا ودول أخرى، إلا لبنة في مسيرة مكافحة هذه الآفة الخطيرة، التي سيعترف الجميع بوجودها في نهاية المطاف.