قد تبدو النسوية أقرب إلى حركة اجتماعية ذات نزعة عالمية، لكنها أيضاً حقل معرفي له قواعده التي تسنده وامتداداته التي تغذّيها جهود المنتسبين إليه، وكما قدّمت سيمون دي بوفوار دفعاً بخلفية نظرية فلسفية أو جوليا كريستيفا بروافد من الأدب والتحليل النفسي، أتت فرانسواز إيريتييه (1933 – 2017) بعناصر لهذا الحراك من مجال تخصّصها؛ الأنثروبولوجيا.
الأربعاء الماضي، 15 تشرين الثاني/ نوفمبر، رحلت صاحبة "رجال، نساء: بناء الاختلافات" عن عالمنا، بذلك يقابل تاريخ رحيلها نفس يوم ولادتها. كان العمل على نقل مناهج الأنثروبولوجيا إلى السياق النسوي مغامرة منذ البداية، فقد ظهرت الباحثة الشابة في فترة اعتبرت مرحلة اكتمال هذا العلم ونضجه، قبل أن تظهر أسئلة جديدة وتشكيكات خلطت أوراقه مجدّداً.
بحسب التقسيم الأكاديمي في الأنثروبولوجيا، تعتبر إيريتييه "أفريقيانية" Africaniste؛ أي متخصصة في القارة الأفريقية، لكنها سرعان ما تحرّرت من هذا التصنيف الضيّق حين دفعت بأسئلة جديدة في أبحاثها لم تكن في جراب زملائها.
ربما يجد متابع الفكر اليوم أن سؤال الفوارق بين الجنسين قد أُشبع بحثاً، لكن الأمر لم يكن كذلك في بداية النصف الثاني من القرن العشرين. إريتييه كانت تريد أن تحوّل مسألة تفسير "السيطرة الذكورية" إلى مبحث أنثروبولوجي يصل به الحفر إلى بدايات البشرية. تقول مؤرخة الحركة النسية ميشال بيرو "لقد منحت إيريتييه للنسوية أدوات الوعي بذاتها على سلّم تاريخ البشرية برمّته".
وفي حين أن أغلب الأنثربولوجيين ينهلون من مجالات علوم إنسانية قريبة مثل علم الاجتماع وعلم النفس واللسانيات، فإن صاحبة "ملح الحياة" اشتغلت من منطلقات الفيزيولوجيا مقدّمة أطروحة حول أن الفارق الجسدي بين الجنسين جرى تكريسه من خلال التفرقة الغذائية، ثم تحوّل إلى معطى يجرى بناء النظام الاجتماعي حوله.
بغضّ النظر عن عملية التقبّل العلمي، كانت الأنثروبولوجية الفرنسية بذلك تقدّم نموذجاً ملموساً عن تجاوز "الميتافيزيقا" في تفسير الفوارق بين الجنسين، ومن ورائها تفسّر مظاهر مختلفة من بناء العلاقات بين البشر. وكانت أيضاً تحاول ألا تنغلق أبحاثها في دائرة الجماعة العلمية الضيقة، بل أن تتحوّل إلى نقاشات في الفضاء العام.
يمكن تلخيص مقولة مشوار إيريتييه بأن كل واقع إنما هو صنيعة طُرق التعامل مع الجسد، ومن خلاله فُرضت الفروقات والمواقع الاجتماعية وبات الواقع الجديد يفرز طبقات أخرى من التراتبيات. ومن هنا تأتي دعوتها إلى تحرّر الفكر مما فُرض على الجسد.