في تلك الليلة، أصاب الناس الحاضرين في الحفل شيء من التشتت، بالرغم مما حصلوا عليه من متعة الاستماع بصحبة بيتهوفن؛ فعلى من يركزون النظر؟ على الطفل الصغير وأصابعه العشرة التي غدت كشياطين في رقصة هستيرية وقد تملّكتها سلطة الروح بعد أن انفلتت من سلطة الجسد؟ أم على الرجل الأصم وهو يتابع بشغف ومتعة مشهد رقصة تلك الأصابع ويحوّل تلك الصورة بخياله الفذ إلى موسيقى؟ لم تنته الأمسية على هذا القدر من الجمال، بل هرع الموسيقار الكبير بعد نهاية الأمسية، ليحتضن الطفل ويقبله بحرارة قائلاً له: "سيكون لك شأن كبير بكل تأكيد".
حينها، دوت في القاعة عاصفة من التصفيق إعجاباً ببراعة الطفل وتواضع العبقرية. استقبلت رايدينغ، القرية الصغيرة المجرية في سنة 1811، مولوداً جديداً سيكون بعد تسع سنين فقط واحداً من أمهر وأصغر العازفين الذين يقدمون حفلات ناجحة أمام جمهور على درجة عالية في فن الاستماع الموسيقي. ترى ما سر هذا النبوغ المبكر وما سر هذا الانتشار السريع لـ فرانز ليست؟
لعل لعائلته الطموحة والمحبة للموسيقى أول هذه الأسرار؛ إذ كان والده موسيقياً بارعاً، وإن لم يحترف العمل الموسيقى، بل فضّل أن يكون هاوياً وتمسك بوظيفته حيث كان في خدمة الأمير أسترهازي، مستمتعاً بموسيقى هايدن. وكان يشرف على الأمور الموسيقية في قصر ذلك الأمير كمدير للفعاليات الموسيقية التي يقيمها القصر وتحضرها نخبة من الأرستقراطيين في هنغاريا.
يُضاف إلى هذا، الدروس الموسيقية المبكرة التي كان يتلقاها على يد أستاذيه تشرني وساليري، أثناء وجود العائلة في النمسا؛ فقد فضّلت أن يكون ابنها الموهوب قريباً من منبع الموسيقى. كذلك، ثالث العوامل، يتمثل بالرومانتيكية التي كان لطروحاتها النبيلة أبلغ الأثر في أفكار الناس حول المحبة للحرية والسلام؛ تلك الأفكار التي عمّت كل نواحي الحياة، خاصة الثقافية والسياسية في العالم، بما تتمتع به من خصائص جديدة أهمها: الشعور القومي المتزايد وتعلق الناس به، والحنين للماضي وإقبال الناس على سماع الأغاني الشعبية والعمل على دراسة ونشر كل جماليات الفلكلور، والإيمان بقدرة الفرد على العطاء الإنساني، فراحت تقدّر العبقرية الفنية الأصيلة وترعاها. كذلك التعلّق بالحرية والأفكار الثورية ومناصرة الثائرين، إضافة إلى الولع بالتجديد والثورة على القيم والقواعد الكلاسيكية والأكاديمية التي تحدّ من الانطلاق.
شكّلت كل هذه السباب متانة الأرضية التي بنى عليها فرانز ليست مجده بخيوط من ذهب، وعمّقت نبوغه المبكر الذي جعل دُوراً كثيرة متخصصة بإقامة الحفلات الموسيقية تعمل المستحيل لتفوز بلقائه في دارها، مثل دار أوبرا باريس، حيث قدمت له أوبيريتات كانت تسمّى "دون سانس" (1825) وهو لمّا يزل في الرابعة عشرة من عمره. حقّقت نجاحاً بارزاً واستحسنها أبرز الموسيقيين في ذلك العصر.
لم يتوقّف نبوغ الصبي على إمكانيته في العزف فقط، بل عمل بكل جدية على تثقيف نفسه، سواء بالأدب العالمي أو بطروحات المدرسة الرومانتيكية، خاصة السياسية، ليعد نفسه لمشروعه المقبل، "القصيد السيمفوني"، وكان ذا دراية وعلم بكل المنجزات الموسيقية لأشهر المؤلفين. فحين استمع إلى العازف الشهير باغنيني، الذي كان يعد من أمهر العازفين على آلة الكمان، ويمتلك قدرة تكنيكية عالية وموهبة كبيرة في التأليف الموسيقي، وله جمهور غفير يحضر حفلاته بشوق، تأثر به تأثراً كبيراً واتخذ قراراً جريئاً؛ أن يكون باغنيني آخر، لكن على الآلة المفضلة لديه (البيانو). وفعلاً، تحقّق له ذلك بفترة قصيرة، وأصبح من أشهر الخالدين في سجل الموسيقى العالمية.
من أشهر إنجازات فرانز ليست الموسيقية ريادته القصيد السيمفوني، وهي فعالية من التأليف الموسيقي تتعامل مع منجز شعري في تشكيل المضمون الموسيقي. فقد ترجم مضامين من الأدب العالمي موسيقياً، مثل أشعار مسرحية "تاسو" لغوته، وأشعار مسرحية "هاملت" لشكسبير. وكذلك تناول أشعار لامارتين وضمنها موسيقاه. وكان رصيده من القصيد السيمفوني ثلاثة عشر عملاً. وله من "الرايسوديات"، وهي مؤلفات موسيقية على شكل قطع ذات بناء حر، عشرون عملاً، أما في كونشرتو البيانو، فله عملان يعدّان من أجمل المنجزات الموسيقية في هذا المجال. تتميز موسيقى فرانز ليست بميزتين بارزتين؛ هما: أصلها الهنغاري من حيث الميلودي والإيقاع واللون الموسيقي والانسجام الهارموني، وأنها وثيقة الصلة بكل القيم والمثل الرومانتيكية السائدة في القرن التاسع عشر في أوروبا.
ظل الرجل طوال حياته وفياً مخلصاً لمؤلفات أسلافه من عازفي البيانو؛ فأنجز كتابين أعاد فيهما كتابة أعمال باخ لآلة الأورغن، كذلك سيمفونيات بيتهوفن التسع. وقد كان معجباً بشكل كبير بهذا الرجل الذي توقّع له الشأن الكبير في عالم الموسيقى، كما أعاد كتابة خمس وثلاثين أغنية لشوبرت.
أحب وطنه وأخلص له وكان لا يتردد في تقديم خدماته للمد الثوري الجديد وحماية أقطابه من الثوار، ولا سيما إيوائه للموسيقار الكبير فاغنر، الذي كان من الثائرين على نمط العلاقات الاجتماعية وتصدير حريات الجماهير المحبة للسلام والإخاء، ولم يكتف بذلك بل زوّجه ابنته كوزيما.
كانت جولته الأخيرة في عام 1886، وقد زار فيها باريس ولندن وبروكسل وفايمر. هذه الجولة بدت كأنها رحلة الوداع لتلك المدن التي شهدت مجده وارتقاءه. كان في الخامسة والسبعين، ويردتي الملابس الكهنوتية، كرجل دين مرتبط بروما مقر البابوية. وقد ظهرت له، في هذه الفترة، موسيقى من نوع القوالب مثل "الأوراتوريو" و"الكانتاتا" و"القداس"، وهي بصورة عامة موسيقى تقدم في المناسبات الدينية. وفي يوم 31 يوليو/ تموز من عام 1886 توفي فرانز ليست إثر التهاب رئوي أصيب به وهو في طريقه لحضور عرض أوبرا "تريستان وإيزولدا" لـ فاغنر.