فراشةُ الشفلّح

14 مايو 2015
+ الخط -
على عكس أهل القرى، أمضيت شهر العسل في المدينة مضطراً، كطريقة سياسية لنيل الموافقة على الزواج ممّن أحبّ في زمن الحرب. أنا ابن البرية، أعيش مخنوقاً في مدينة مخنوقة باسم الله. 

في أحد صباحاتها ومن الشرفات العالية، جلست وحيداً قبالةَ الشمسِ المطرودة من ترتيباتها، وهي تشرق من بين البنايات، على صوت فيروز المؤنس لوحدة الغريب، أطلّ على شارع مكتظٍّ بالضجيجِ الصباحيّ، كل يذهب مشغولاً في زمن الحرب بما يدرُّ عليه قوت عياله اليومي.

تأخذني شجرات الشفلّح تلك كراوٍ للمشهد، إذ تجلس عليهن طفلة لم تتجاوزِ السابعة كما يبدو، تقطف الثمار وتضعها بكيسٍ أبيضٍ كقلبها، تتنقل من شجرة لأخرى، كفراشةٍ تبعث بها الأزهار رقصة فرحٍ (زوربائية)، في زمنٍ بات الفرح فيه ضرب جنون.

أراقب وحدتها، تنقّلها الجميل من شجرة لأخرى، أرتجل أسباباَ لتركها فراش أحلامها مبكرةً بقطف الشفلح؛ هل هي نازحة؟ هل هي من فقراء المدينة الذين يجنون ثمن قوتهم من أي شيء؟ هل هي يتيمة ؟ هل هي مثلي؟ هل هي...؟!

مرّ على هذِهِ المدينةِ عبرَ عامين من التحرير مراحل شتى، فمن النظام، إلى الجيش الحر، إلى ما يسمى بتنظيم الدولة (داعش)، وعبر هذه المتتاليات الحربية، لا خاسر إلاها.

توقفت المدارس في العام الثاني للثورة في قرانا، أصبحت جهداً ذاتياً لا يعتمدُ على رواتب أو التزامات، فهناك من ترك التدريس وبقي يتقاضى راتبه من النظام، وهناك من أجهد نفسه في التعليم بثمن بنزين دراجته النارية، إذ يأتي من قريةٍ ثانية، وهناك من ترك التدريس وانخرط مع الثوار.

لم تشغل المجتمع مسألة توقف المدارس بشكل جزئي، فهناك ما يشغلهم عن ذلك، الحرب التي استولت على كل شيء.

ما لبث أن سيطر تنظيم الدولة على منبج وقراها، (رجال الله)، الذين استبدلوا "الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة" بـ"دولة الإسلام"/ أمة اقرأ. سمحوا للفصل الثاني الدراسي بمتابعة مجراه إلى أن انتهى، فأنشأوا ديوان تعليم وأجبروا المعلمين على خوض دورة شرعية بموجبها يتم الموافقة على ختم أوراقهم ـ حيث استولوا على الختم من دائرة التوجيه ـ لتقاضي رواتبهم من النظام، ثم أوقفوا المدارس بحجة تغيير المناهج، ولم يفعلوا شيئاً.

ومرّ عام دراسي كامل لم يجرؤ فيه طفل على حمل حقيبته المدرسية والتوجه إلى أجمل مراحل الذاكرة، حتى أنّ المعاهد الخاصة أوقفتْ بأمر الخليفة، وعندما حاولنا تقديم فكرة تعليم الحروف العربية فقط، كي تبقى ذاكرة الطفل متفاعلة مع فكرة التعلّم، باءت بالرفض غير القابل للمناقشة أو السؤال: لماذا؟

من لا يعرف "دوما" المدينة المحاصرة منذ أكثر من ثلاث سنوات، بلا أكل ولا شرب، قصف وتجويع وموت بالتقسيط، لكنّ المدارس بقيت مستمرة ومقاومة كأهليها، تنال كل يوم نصيبها من القصف الممنهج، فيستشهد من طلابها من يستشهد، ويبقى من يبقى، ورغم كلّ هذا، يلعبون ويفرحون ويتعلمون ويحلمون بغدٍ تاجه الحرية.

اليوم أصبحت "أمة اقرأ" تنعم بمستقبل مبهم، فالجيل القادم لا يعرف كتابة اسمه، من كان في عمر السادسة دخل التاسعة وهو لا يجرؤ على قول: أريد أن أقرأ، أريد أن أرتاد المدرسة، وعلى الأغلب لم يعد عقله الباطني مهيئاً لذلك.

ترى ما الذي يسلب الطفل حقوقه في زمن الحقوق والواجبات؟ ما الذي يعطيك حق إيقاف التعليم والتعلُّم والقضاء على جيل كامل في زمن تقدّم العلم والتكنولوجيا؟ أول قَوْل لله تعالى: {اقرأ}، لم يأتِ شيء يدعو لإيقاف القراءة وتعلمها، كي يتمّ هذا الجرم باسم الله.

الحرب تتقن خلق الآلام فينا، توشمها على جدار الذاكرة، وتنزع عنا صفات الفرح ليصبح كل شيء حزيناً، الشمس في كفوف شروقها حزينة، العصافير التي تفتتح الصباح بأهازيجها حزينة، صوت فيروز المرفق بهذه المشاهد حزين، وحزينة تلك الدروب التي أضاعت بوصلة الجهات فلم تعد تودي إلى أي مكان سواها/ الحرب.

لا تراني الطفلة ولا تنتبه لما دار هنا في رأسي، مشغولة بالتنقل من شجرة لشجرة كملاك طائر، ربما هي ليست أي الاحتمالات التي خطرتني، ربما أرسلتها أمها كي تموّن شفلحاً للبيت. وتكمل فيروز: (إيه في أمل..).


(سورية)
المساهمون