28 أكتوبر 2024
فتنة في ميونخ
انتهت أمس، أعمال مؤتمر ميونخ للأمن، المحفل السنوي الذي يضم قادة ومسؤولين وخبراء من كل أنحاء العالم، للتباحث في القضايا التي تؤرق العالم، وتمثل تهديداً للأمن والاستقرار. وعلى الرغم من أن هذه هي الدورة الثالثة والخمسين للمؤتمر الذي ينعقد سنوياً منذ 1963، إلا أن دورة هذا العام تتميز كليا عن كل المرات السابقة. ففي كل عام، تهيمن على أعمال المؤتمر قضايا محدّدة تحظى غالباً بتوافق بين الدول المشاركة، باعتبارها مصدر تهديد أو تشكل تحدياً مستقبلياً للأمن في العالم. ودائماً كانت الدول الغربية تشترك في رؤيةٍ منسقةٍ وتصورات شبه موحدة.
الوضع جد مختلف هذا العام، فقد خيم التباين الأميركي الغربي على أجواء المؤتمر. فالدول الغربية، تحديداً الأوروبية، يسودها قلق بالغ منذ إعلان فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية. ليس بسبب طبيعته الاندفاعية وأسلوبه الشعبوي وعقليته الاقتصادية بحد ذاتها، وإنما لتجليات تلك الخصائص على توجهاته، وبالتالي قراراته، الداخلية والخارجية. وبعد أن كانت أوروبا تكتفي بالتوجس وترقب السلوك الفعلي لترامب بعد دخوله البيت الأبيض، إذا بها أمام مأزق حقيقي، نتيجة اندفاع ترامب نحو استعداء العالم، والمسارعة إلى اتخاذ قراراتٍ حادّة، لا تراعي سوى حسابات ضيقة، تعكس منظوره الأحادي للأمور، ونمطه في إدارة دولة قطب عالمي، كما لو كانت شركة خاصة مملوكة له، وهمها الوحيد تحقيق أرباح مالية. فبعد أن انتقل ترامب من توزيع انتقاداته ومواقفه العدائية داخلياً ضد الديمقراطيين والإعلام الأميركي، وخارجياً في أنحاء مختلفة من العالم، خصوصاً في الشرق الأوسط، صارت أوروبا ترى هذا الخطر قريباً، بمطالبة ترامب الدول الغربية أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بتحمل مزيد من المسؤوليات المالية في نفقات الحلف، مهدّداً بتخفيف الالتزامات الأميركية تجاه الحلف، ما لم يحدث ذلك.
مصدر الخطر الذي استشعرته أوروبا ليس في العبء المالي الذي ستتكبّده تجاه "الناتو"، فقد أعلنت وزيرة الدفاع الألمانية، أورزولا فون ديرلاين، تأييدها رفع سقف مساهمة بلدها في ميزانية الحلف، واعتبرت أنه "ليس من العدل" أن تتحمل الولايات المتحدة من أجل الأمن ضعف ما تتحمله جميع الدول الأوروبية مجتمعة، إلا أن المشكلة لدى أوروبا أبعد من الحسابات المالية والبراغماتية التي يدير بها ترامب الملفات. أزمة أوروبا (والعالم كله) تكمن في العقلية التي يفكّر بها، ورؤيته الدولة الأميركية ومكانتها المفترضة، وبالتالي علاقاتها مع مختلف دول العالم. لا تزال أوروبا تعتبر واشنطن حليفها الرئيس والقطب الأكبر في معسكر واحد يضمهما معاً، في مواجهة تهديداتٍ وتحدياتٍ مختلفة ومتنوعة، تشتمل على أطرافٍ، من بينها روسيا، وظواهر مثل الهجرة واللجوء، وأفكار مثل التطرّف. ولما كانت القيم الغربية المشتركة هي المعرّضة للخطر جراء تلك التحديات، فمن الطبيعي أن تكون مواجهتها مشتركةً ومنسقةً بين أوروبا وأميركا، خصوصاً بالنسبة للتطرّف والعلاقة مع الدب الروسي، وغيرها من مسائل تنطوي على بعد قيمي وحضاري. بينما رؤية ترامب وبعض أركان إدارته بعيدة تماماً عن معظم تلك التقديرات الأوروبية، فروسيا التي تعتبرها أوروبا تهديداً مباشراً بالمعايير كافة، بما فيها الحسابات الاقتصادية والبراغماتية التي يتبناها ترامب، ليست عدواً بالنسبة إليه، وإنما هي دولة قوية وند، وتجب إدارة العلاقات معها بمعيار المنفعة والضّرر وفق منطقه المادي والواقعي، لا القيمي ولا التاريخي. ولم يكن غريباً أن تستغل موسكو هذا التباين الأوروبي الأميركي، ليخرج وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ليقول إن بلاده لا تبحث عن عداوات "لكنها قادرة على حماية نفسها". في رسالة مزدوجة، تحمل طمأنة لأوروبا بأنه لا خطر روسياً عليها، وتنويهاً لترامب بأن حساباته المادية في محلها، وله أن يمضي في براغماتيته.
الوضع جد مختلف هذا العام، فقد خيم التباين الأميركي الغربي على أجواء المؤتمر. فالدول الغربية، تحديداً الأوروبية، يسودها قلق بالغ منذ إعلان فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية. ليس بسبب طبيعته الاندفاعية وأسلوبه الشعبوي وعقليته الاقتصادية بحد ذاتها، وإنما لتجليات تلك الخصائص على توجهاته، وبالتالي قراراته، الداخلية والخارجية. وبعد أن كانت أوروبا تكتفي بالتوجس وترقب السلوك الفعلي لترامب بعد دخوله البيت الأبيض، إذا بها أمام مأزق حقيقي، نتيجة اندفاع ترامب نحو استعداء العالم، والمسارعة إلى اتخاذ قراراتٍ حادّة، لا تراعي سوى حسابات ضيقة، تعكس منظوره الأحادي للأمور، ونمطه في إدارة دولة قطب عالمي، كما لو كانت شركة خاصة مملوكة له، وهمها الوحيد تحقيق أرباح مالية. فبعد أن انتقل ترامب من توزيع انتقاداته ومواقفه العدائية داخلياً ضد الديمقراطيين والإعلام الأميركي، وخارجياً في أنحاء مختلفة من العالم، خصوصاً في الشرق الأوسط، صارت أوروبا ترى هذا الخطر قريباً، بمطالبة ترامب الدول الغربية أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بتحمل مزيد من المسؤوليات المالية في نفقات الحلف، مهدّداً بتخفيف الالتزامات الأميركية تجاه الحلف، ما لم يحدث ذلك.
مصدر الخطر الذي استشعرته أوروبا ليس في العبء المالي الذي ستتكبّده تجاه "الناتو"، فقد أعلنت وزيرة الدفاع الألمانية، أورزولا فون ديرلاين، تأييدها رفع سقف مساهمة بلدها في ميزانية الحلف، واعتبرت أنه "ليس من العدل" أن تتحمل الولايات المتحدة من أجل الأمن ضعف ما تتحمله جميع الدول الأوروبية مجتمعة، إلا أن المشكلة لدى أوروبا أبعد من الحسابات المالية والبراغماتية التي يدير بها ترامب الملفات. أزمة أوروبا (والعالم كله) تكمن في العقلية التي يفكّر بها، ورؤيته الدولة الأميركية ومكانتها المفترضة، وبالتالي علاقاتها مع مختلف دول العالم. لا تزال أوروبا تعتبر واشنطن حليفها الرئيس والقطب الأكبر في معسكر واحد يضمهما معاً، في مواجهة تهديداتٍ وتحدياتٍ مختلفة ومتنوعة، تشتمل على أطرافٍ، من بينها روسيا، وظواهر مثل الهجرة واللجوء، وأفكار مثل التطرّف. ولما كانت القيم الغربية المشتركة هي المعرّضة للخطر جراء تلك التحديات، فمن الطبيعي أن تكون مواجهتها مشتركةً ومنسقةً بين أوروبا وأميركا، خصوصاً بالنسبة للتطرّف والعلاقة مع الدب الروسي، وغيرها من مسائل تنطوي على بعد قيمي وحضاري. بينما رؤية ترامب وبعض أركان إدارته بعيدة تماماً عن معظم تلك التقديرات الأوروبية، فروسيا التي تعتبرها أوروبا تهديداً مباشراً بالمعايير كافة، بما فيها الحسابات الاقتصادية والبراغماتية التي يتبناها ترامب، ليست عدواً بالنسبة إليه، وإنما هي دولة قوية وند، وتجب إدارة العلاقات معها بمعيار المنفعة والضّرر وفق منطقه المادي والواقعي، لا القيمي ولا التاريخي. ولم يكن غريباً أن تستغل موسكو هذا التباين الأوروبي الأميركي، ليخرج وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ليقول إن بلاده لا تبحث عن عداوات "لكنها قادرة على حماية نفسها". في رسالة مزدوجة، تحمل طمأنة لأوروبا بأنه لا خطر روسياً عليها، وتنويهاً لترامب بأن حساباته المادية في محلها، وله أن يمضي في براغماتيته.