فتحي بن سلامة.. مُواطن في التحليل النفسي

22 مايو 2015
+ الخط -

تطرّق التحليل النفسي، منذ ظهوره في بدايات القرن العشرين، للأديان السماوية وانشغل بها، غير أن الإسلام بقي منطقة ظل. أمام هذا الوضع، يتصدّى فتحي بن سلامة لأسئلة الإسلام المعاصر مستعملاً أدوات التحليل النفسي، إذ يقول "ما أقوم به هو بحث عن طريق التحليل النفسي في الإسلام، وبحث في التحليل النفسي عن طريق الإسلام في الوقت نفسه".

يكتب المفكر التونسي أعماله باللغة الفرنسية، ولم يصل بعد منها إلى العربية سوى ثلاثة أعمال: "ليلة الفلق" (ترجمة بشير بن سلامة - 2005)، و"الإسلام والتحليل النفسي" (ترجمة رجاء بن سلامة - 2008)، و"تخييل الأصول" (ترجمة شكري المبخوت - 2000)، بينما ما زالت أعمال مثل "الفحولة في الإسلام"، و"إعلان عصيان"، أو آخر مؤلفاته "حرب الذاتيات في الإسلام" (2015)، تنتظر تعريبها.

يكشف لنا عن أسفه لعدم وصول الكثير من أفكاره إلى موطنها الأصلي، لكنه في المقابل لا يرى نفسه قد ظُلم، إذ يعتبر أن "المفكر لديه كل الوقت للانتقال إلى ثقافة أخرى بشرط أن يكون لفكره قيمة". يضيف: "هذا لا يمنع كوني غير راض عن نسق الترجمة نحو العربية عموماً؛ ما يجعل نسبة كبيرة من الفكر العالمي غير مستفاد منها لدينا".

يُشير بن سلامة إلى مفارقة، هي أن جميع مؤلفاته قد ترجمت إلى اللغة اليابانية. ويلفت الانتباه هنا إلى "سياسة جامعية في اليابان تفرض على كل طالب يصل إلى مرحلة الماجستير أن ينقل كتاباً في اختصاصه من ثقافة أخرى إلى اللغة اليابانية".

من جانب آخر، يعترف المحلل النفسي بفرحه لدى صدور ترجمات كتاباته وبحوثه بالفرنسية إلى العربية. ويقول: "حين ترجمت رجاء بن سلامة كتاب "الإسلام والتحليل النفسي"، أعدت قراءته معها، ووجدت نفسي أفكّر في ما لم أفكّر فيه حين كتبت العمل باللغة الفرنسية. ولا أخفي أن النسخة العربية بدت لي أنها النسخة الأصلية رغم أن العكس هو الصحيح".

سألناه "لماذا إذن يواصل الكتابة باللغة الفرنسية؟". يجيب: "الفرنسية هي لغة البحث بالنسبة لي، ولكنني أفكر جدّياً في الكتابة مستقبلاً بالعربية. اللغة الفرنسية واللغات الأوروبية عموماً لا تعاني من فجوة كبيرة بين لغة العلم ولغة الحياة العامة. علينا أن نجد حلولاً لمعضلة كون الأفكار تسير بسرعة بينما تتطوّر اللغة عندنا بسرعة أقل".

هنا، يكاشفنا بن سلامة بأنه يرى في اللهجة التونسية ما يمكن أن يحل المشكلة. يقول: "أتمنى لو أستطيع تطوير لغة بين العربية الفصحى والعامية التونسية، إذ أعتقد أنها قادرة على استيعاب مفاهيم علم النفس. وهذه اللهجة هي اللغة التي أتحدث بها مع نفسي حين أكون على طاولة الكتابة، وهي اللغة التي أتحدث بها الآن وتستوعب كل ما أريد أن أوضّحه من قضايا علم النفس".

قصة فتحي بن سلامة مع التحليل النفسي يتداخل فيها العائلي بالعلمي. فقد جذبته في صباه هواية عائلية بتفسير الأحلام قبل أن يكتشف في مطلع شبابه فرويد، الذي فعل الشيء نفسه ولكن بطرق علمية تتجاوز الرؤية التي يعرفها، فقرّر مواصلة هذا الدرب. لم يجد في تونس فرصة لمتابعة دراسة هذا الاختصاص الحديث فانتقل إلى فرنسا (1972).

 بسرعة، اندمج بن سلامة في الحياة الجامعية الفرنسية، وكذلك في منظومة النشر وعالم الميديا. شغل كرسيّ عميد جامعة دوني ديدرو (باريس 7)، وكثيراً ما يُدعى لتحليل ظاهرة التطرّف الإسلامي أو الظاهرة الأوروبية الموازية لها، "الإسلاموفوبيا"، والتي يصرّ على أنها "مصطلح خاطئ"، إذ يعتبر أن "استعمال مفهوم الفوبيا، بغير معناه العلمي الدقيق، في هذا السياق يُخفي كون الغرب يمارس عنصرية يبرّرها بالخوف من الإسلام". من جهة أخرى، يعتقد أن "كثيراً من المسلمين شاركوا في خلق هذه الكراهية والخوف بتصرّفاتهم العنيفة التي تبرّر الكراهية وترسّخها".

لتفسير ظاهرة التطرّف، طرَح بن سلامة مفهوم "يأس الجماهير" في كتاب "الإسلام والتحليل النفسي"، يوضح قائلاً: "إنه يأس جعل الناس تتجه نحو الإسلاموية وتعتقد فيها حلاً، وهو حل لا يمكن أن نقول عنه خاطئاً بالمطلق أو صحيحاً بالمطلق؛ إنه خليط من الخاطئ والصحيح". ويرى أن "الأخطر ليس الخاطئ بالكامل، فهذا يسهل دحره وإسقاطه عقلانياً. الأخطر هو خليط من الصحيح والخاطئ، إنه يفرز شيئاً مسموماً".

كتابه "ليلة الفلق" هو أول عمل وصل للعربية، وهو يعتبره كتاباً "تدرّب فيه على التأليف". درس المفكر التونسي في هذا العمل المغامرة النفسية والإنسانية للنبي محمّد. يقول: "حاولت النظر في المسألة من زاوية غير دينية، أردت الاشتغال على محمد الإنسان، والإسلامُ يؤكد دائماً أن محمداً نبي وإنسان في الوقت نفسه. وهذا الإنسان يواجه بعض الحالات النفسية. اصطدمت بقلّة المراجع، إذ وجدت أن كتب السيرة تحاشت هذه المغامرة الإنسانية التي تدوم أكثر من فترة النبوة، فترة عرف فيها النبي لحظات شك وكآبة".

أما في أشهر مؤلفاته، "الإسلام والتحليل النفسي"، فقد وظّف أدوات التحليل النفسي في دراسة البُعد الحضاري للإسلام. يتأمّل في ما يسميه بـ"هذيان اللّجوء إلى الأصل"، الذي أدّى إلى محاولة استنساخ هذا الأصل بالقوة ومن ثم الإعلان عن "جاهليّة" المسلمين الحاليّين، في حالة هذيان جماعيّ عرفتها فئات من المجتمعات العربية المعاصرة.

 في العمل نفسه، حاول المفكر التونسي الإجابة عن سؤال "لماذا، وبخلاف الأديان السماوية الأخرى، لا يعتبِر الإسلام الإله أباً؟". يقول: "حين نعود إلى تاريخ الأديان نعرف السبب، فقد أنجبت هاجر ابنها إسماعيل (الجد الأول للنبي محمد)، من علاقة جسدية طبيعية مع إبراهيم، بينما ولد لإبراهيم إسحاق بفضل معجزة إلهية على سارة التي تجاوزت سن الخصوبة، وفي ولادة النبي عيسى يبرز هذا التدخل الإلهي أكثر".

في هذا العمل أيضاً، اشتغل بن سلامة على ما سمّاها "عيادة ألف ليلة وليلة". اعتبر شهرزاد طبيبة لنفس الرجل العربي المريضة بالجنس. شهرزاد، بحسبه، هي "رمز المرأة العربية. إنها مكتبة خرافات، والخرافات هي التي تحتضن اللاوعي الإنساني في عملية نموّه". بالحكايات تداوي رجلاً فقد عقله بسبب المرأة فكانت له "عيادة يومية تقع على السرير الزوجي". ويلاحظ قائلاً: "العيادة يقابلها بالفرنسية كلمة كلينيك clinique، والتي تعني السرير ومنها نشأ مصطلح علم النفس السريري".

في آخر أعماله، "حرب الذاتيات في الإسلام"، يدرس قضية التطرّف الديني من زاوية جديدة، إذ يقصد بالذاتيات "النظرة الشخصية للأمور وهيمنتها على المشترك وسقوط الموضوعي تبعاً لذلك، حتى غدت الذاتيات مهيمنة على العلاقات بين الشعوب". ويقول: "طرافة وإضافة علم النفس أنه يُمكّن من مشاهدة هذه الظواهر التي تشغل الرأي العام من الداخل، من داخل النفس البشرية".

المساهمون