فالح عبد الجبار.. تلويحة إلى الديستوبيا العربية

27 فبراير 2018
(فالح عبد الجبار)
+ الخط -

في 2015، ألقى عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار (1946-2018) محاضرة في تونس بعنوان "منابع العنف، الدولة أوّلاً" واعتبر فيها أن المشهد السياسي العربي يعيش "خبلاً جماعياً أو حالة افتتان فيروسي بالعنف"، يشهد على ذلك وضع بلاد عربية كثيرة، ولا تزال، مثل العراق وليبيا وسورية واليمن، وأخريات تعيش على حوافه.

إنه المشهد الأخير الذي عاينه عبد الجبار الذي رحل عن عالمنا أمس، وهو مشهد ليس سوى محصّلة لتاريخ قريب سايره من خلال البحث، والذي نلتقط فسيفساءه من عناوين عدد من أعماله مثل "العمامة والأفندي" و"في الأحوال والأهوال" و"التوتاليتارية"، وكان آخرها كتاب "دولة الخلافة: التقدّم إلى الماضي" في نهاية 2017.

إشكالية العنف الذي غمر البلاد العربية كموجة عالية في منعطفات القرن العشرين ووصولاً إلى أيامنا، كان عبد الجبار يرصدها بأدوات عدة؛ بداية من تخصّصه في علم الاجتماع، وتفرّعاته في علم الاجتماع الديني والسياسي، مع تغذية متواصلة من علوم أخرى كالفلسفة والأنثروبولوجيا والاقتصاد وغيرها، حيث لا يكفي ما يوفّره تخصّص واحد لمقاربة مسائل متشعّبة كهذه، كانت بدورها تفتح على قضايا أخرى مثل الطائفية والدكتاتورية والتخلّف وإشكاليات بناء الدولة الحديثة في كل البلاد العربية وتفاعلها غير المتكافئ مع المجتمع.

في الحقيقة، يمكن اعتبار التفكير في الدولة هو عقدة مسار فالح عبد الجبار، بحيث يمكن أن نعيد إليها كل القضايا التي اشتغل عليها، فهي "محور العنف" إذ تحتكره وتسيء استخدامه ما يخلق مناخاً ينشط فيه الاحتجاج ليظهر عنفٌ آخر، هذه المرة موجّه إليها، وهي قراءة تفسّر الكثير مما حدث في التاريخ العربي القريب، ليس أقلّها أحداث الانتفاضات في سنة 2011. علماً أن السنة الأخيرة من حياته شهدت أيضاً إصدار "كتاب الدولة.. اللويثان الجديد" وهو ترجمة لأحد مؤلفاته بالإنكليزية.

الدولة أيضاً كانت منطلق كتاب سجالي صدر له بعنوان "ما بعد ماركس؟"، والذي قُرئ كارتداد عن الماركسية التي تبنى عبد الجبار مقولاتها في مرحلة من حياته، وهو الذي نقل إلى العربية النسخة الكاملة من كتابها المرجعي "رأس المال".

في "ما بعد ماركس؟"، انطلق عبد الجبار من تساؤل "هل هناك نظرية مكتملة عند ماركس عن الدولة؟"، وقد أشار إلى وعيه بوقع سؤال كهذا على اليسار العربي، حيث يقول "أعلم بيقين تام أن مجرّد التفكير في طرح السؤال عن وجود نظرية محددة عن الدولة لدى ماركس وإنغلز ولينين سيكون له وقع جارح بل ربما يؤخذ بمنزلة الهرطقة". غير أن السؤال المشاكس كان ضرورة، وربما أتي متأخراً في ثقافتنا (نشر الكتاب في 2010، وقبله صدر كتاب "ما بعد الماركسية" في 1998) فـ سؤال ما بعد ماركس أخذ يلحّ على العالم منذ ترنّح التجربة السوفييتية في نهاية سبعينيات القرن الماضي.

ولقد مثّلت هذه المراجعة دُفعة في مسار عبد الجبار البحثي، حيث انفتح على تمثّلات أخرى، وانضافت طبقة نقدية في قراءته للواقع تَخلّص فيها من أحكام القيمة دون أن تتغيّر كثيراً انشغالاته، كما لم تتلوّن قتامة خلاصاته، فإذا استعرنا أحد مفاهيم الأدب التخييلي، فإن قارئ منجز فالح عبد الجبار سيخرج برؤية ديستوبية عن العالم العربي، حيث يبدو فضاء يستحيل فيه البناء، في السياسة أو في الفكر أو في غيرهما.

ربما تعود هذه الرؤية الديستوبية إلى انكسار المشاريع الفكرية أمام الواقع العربي، أو على الأقل تخبّطها إزاءه، ولقد أشار فالح عبد الجبار إلى أحد أسبابها وهي معضلة "فقدان صنعةِ مفاهيم محلية"، وعبّر عن ذلك ذات مرّة باستعارة قال فيها أن المفاهيم التي طوّرها الغرب في العلوم الإنسانية مثل مفكّات براغ، كيف يمكن توظيفها إذا لم يكن لدينا سيارات؟ هل يمكن استعمالها لمعالجة حصان؟ أما أخطر ما يهدّد الفكر العربي، فهو بحسبه "تداول مصطلحات ليست دالة عن أي واقع ملموس".

المساهمون