لطالما اشتكت أم عصام في حيّنا من تصرّفات ابنها الذي لم يفلح في متابعة دراسته. وعجز عن الاستمرار في أيّ وظيفة تولّاها. اشتكى سابقا من رائحة جلد الإطارات المنبعثة من مستودع عمل فيه، وقدّم استقالته لأنّه كان يصاب بالدوار، حسب قوله.
جرب العمل كمحاسب في محل سندويشات معروف ومشهور. لكنّ إقبال الناس وضغط العمل اضطراه إلى التوقف عن العمل بحجّة الإرهاق. جرّب أن يعمل جابيا في شركة أدوات كهربائية تبيع بطريقة التقسيط الشهري، وتوقّف سريعا بحجة المشاكل مع من لا يلتزمون بالدفع.
تروي أم عصام مأساتها مع ولدها وتقول: "هالصبي بدّو كلّ شي عالقاعد، أنا ما بلحّق عليه. من يوم يومه وأنا مدلّعته". تحكي المرأة العجوز عن مصروفه الذي لا ينتهي. تحمد الله أنّ منزلها ملكٌ لها تركه لها زوجها قبل وفاته. أخوات عصام تزوجن وهاجرن مع أزواجهنّ. وهنّ يتكفّلن بارسال مصاريف البيت ومصاريف عصام طبعا.
منذ مدّة بدأت تشتكي الوالدة من تصرّفات غريبة يقوم بها ابنها الاربعيني. فتقول إنّه بات يجلس ساعات طويلة على حاسوبه في المنزل. يحتسي أكواب الشاي بكثرة وتبدو السعادة والبشاشة وقد احتلّت تعابير وجهه.
جلست أمامه يوما تسأله: "خير يا ابني؟ في شي؟ ان شاء الله عم تشتغل وراه هالكومبيوتر؟". فاجأبها: "يا حجّة 400 و300 لايك على كلّ شي بحكيه". لم تفهم تماماً ما هو اللايك، لكنّها تمتمت: "خير، بسّ شو يعني؟ الله فتحها عليك؟". فأدار الرجل شاشة الحاسوب باتجاه والدته. اقتربت تمعن النظر في تعليقات الناس على كتاباته، وكان أكثر ما شدّها هو نعته بـ"الأستاذ" من قبل البعض. فقامت تكمل غسل الأواني وهي تقول: "أستاذ؟ إبني عصام أستاذ بشو؟".
بعد أيّام معدودة طلب عصام من والدته كيّ القميص الأزرق الرسمي بسرعة. فراحت على عجل تكوي القميص، متعجّبة: "يا ربّ اجعله خير، الله يفتحا بوجهك بقا، يا ربّ ترزقه زوجة"، فيما غرق عصام في صمت تام، وراح يحاول ضبط نظّاراته على المرآة، متعجّلا في رسم لحيته بشفرة الحلاقة. وأغلق الباب خلفه بقوّة وخرج مسرعا.
نصف ساعة تماما ودوى صوت جارهم صاحب القهوة المقابلة للبيت: يا أم عصام. لك يا أم عصام. عصام عالتلفزيون. لم تصدّق. فأكّد لها ابن جارتها: خالتو.. خالتو، عصام عالتلفزيون. فأدارت جهاز التلفزيون. وفعلا كان عصام. لكن لماذا يحاورونه على التلفزيون؟ ما الذي فعله؟ دقّقت في الكلام أسفل الشاشة، فكان مكتوبا بخطّ واضح: "الباحث والكاتب عصام...".
لم تصدّق الأمر: باحث! كاتب!. وسألت نفسها: "طب ابني شو كتب؟ هل يا ترى هالشي سيؤمّن له وظيفة؟". كلّ تلك الاسئلة داهمتها دون حتّى أن تركّز على ما كان يقوله.
عاد عصام إلى الحيّ يمشي ببطء لئلا يفوّت نظرة الجيران إليه.
"أهلا أستاذ.."، "الله معو الأستاذ..."، منهم من يقولها مصدوما ومنهم من يرسم ابتسامة سخرية. لكنّ عصام كالجبل تماماً، نفش ريشاً طاووسياً على رقبته وسار مختالاً. دخل المنزل وفتح الحاسوب وقال لأمّه: "اعمليلنا كبّاية شاي. بدنا نشوف صدى هالمقابلة عند المعجبين على صفحة الفايسبوك". فحرّكت ملعقة السكر واقتربت والدته مستفهمة: "يا أمي ما شاء الله، صرت أستاذ من ورا هالكومبيوتر... يعني ان شاء الله في شغل؟ رح ياخدوك بالتلفزيون؟". فتغيّرت معالم وجه عصام وانتفض: "انت كلّ همّك المصاري؟ والشغل؟ شو بفهّمك يا حجّة انت؟".
أيّام معدودة وشعرت الأم بسيل من المياه يتساقط على غسيلها المنشور. فخرجت غاضبة وصرخت: "لك شو قصّتك يا جارة وَلَوّ؟ ما شايفة الغسيل؟"، فأطلّت الجارة وقالت: "لك يا أم عصام شو بعمل؟ وَلَوّ؟ ركّبي برداية"، وبسخرية أضافت: "وَلَوّ؟ هالأستاذ يلّي عندك كمان برداية ما بيقدر يركّبها؟".
هنا ارتبكت أم عصام. فهي تعرف تماما أنّ اللطشة أصابت واقع عيشتها مع ابنها البكر، لكنّه ضنى والضنى غالي ولن تقبل بهذه اللطشة. فوقفت وقد برزت شرايين رقبتها، وأفرغت غضب سنوات البطالة وأقداح الشاي وعبث الحاسوب، صارخة بأعلى صوتها في وجه جارتها: "شو قصدك؟ شو قصدك؟ ابني أستاذ غصبا عنك. إبني فاسبوكي قدّ الدني". ودخلت غرفتها بعدما أقفلت الباب. وابنها عصام يؤشّر لها بيديه: "لايك يا ماما. لايك".