فادي الطفيلي: بعيداً جداً عن بيروت

30 مارس 2015
"الحرب الأهلية اللبنانية - حرب المخيمات"، 1987
+ الخط -

من خلال مسايرة توقه لمعرفة الموضع الذي ألقيت فيه جثة أستاذه جميل الصفّوري، في زقاق البلاط إبان الحرب الأهلية، يحاول الكاتب اللبناني فادي الطفيلي إعادة تركيب صورة آفلة للهيكل العظمي لمدينة بيروت.

صورة لمكان تدخّلتْ فيه هجرات الناس، وتوزّعهم المناطقي، وتشكيلاتهم الحزبية؛ بل وحقائقهم التاريخية والعرقية والإثنية لإقامة تلك الصراعات وتوريثها، وبالتالي إعادة بعث بيروت أو تخريبها مرة تلو أخرى.

لن يخلص الطفيلي، في كتابه "اقتفاء أثر.. مرويات في المدينة والأمكنة والأحياء" (أشكال ألوان، بيروت)، إلى تحديد الموضع الذي رمى فيه مسلحون جثة أستاذه الفلسطيني، داعية البروتسانتية في الحي البيروتي الصغير، بعد تعذيبه.

وفي مقابل ذلك، سيقوده تتبعه لآثار الحي وتوسُّعه فيها، لأن يكشف لنا بيروت الأولى، بخرائطها القديمة، وتقسيماتها البدائية وقصورها المتوارثة.

يحدثنا الطفيلي عن دلالة المقبرة الأقدم (الباشورة) من الناحيتين العمرانية والجغرافية، ثم عن موقعها الاستراتيجي الثابت والمرتفع. كما يبيّن دورها في صقل الحدود العسكرية والاستراتيجية للفئات المتقاتلة، والتي تعززت بتواجد مقبرتين أخريين ("الشهداء" و"روضة الشهيدين") في مرحلة أخرى خلال الحرب.

يُبقي الكاتب "إخفاقه" في العثور على موضع رفات الصفوري خافتاً وطيّعاً، وغير مبتوت فيه، بما يكفل له استئناف هذا البحث في كل تحوّل سياسي أو ديمغرافي سيصيب بيروت بين 1981 و2008 (زمن مرويات الكتاب). سيوظّف الطفيلي "إخفاقه" ليعادل بين جثة كائن بشري وجسد المدينة. إذ إن كليهما دائم التحوّل.

جثة الأستاذ تظل في ذهن الكاتب موزَّعة في أكثر من مكان ضمن خارطة الحي، وتصبح بذلك جثة متحرّكة، متملِّصة من الإمساك بسرّها، يمكن ملؤها بالترميز أو بالموقف السياسي أو الإنساني البحت، أو مقاربتها مفاهيمياً بجثة أي شخص آخر تحت أي ظرف زمني آخر (كما هو الحال مع شخصية يوسف الحلو، المتوفى عام 1975، ودلالات وفاته).

توسُّع الطفيلي في رقعة "بيروته"، لن يفضي فقط إلى تناسل المكان الواحد إلى أماكن، بل سيُنتج كذلك تناسلاً في الشخصيات (صالح اليحفوف، رباح صبحي، إبراهيم النمر، وصولاً إلى شخصية يوسف الحلو في آخر الكتاب). وهو تناسل وظيفي، فالشخصيات ترتبط بحبل سردي واحد، وتكون على تماس متغيّر مع مكانها، فتشرف من حيواتها بشكل أو بآخر على موت الصفوري.

هاته الشخصيات توفر لها علاقتها بالمدينة الفسحة التعبيرية أو الوجودية، وتتحوّل أجزاء من أحياء بيروت (مقبرة الباشورة مثالاً) إلى بيئة تتلاحم فيها، تتوارى، أو تتماهى بوظائفها التي فرضتها الحرب.

غير أن هذا التفاعل، لن يُحسَم لصالح الشخصيات، فهي تُذوَّب تدريجياً في المكان. يصبح كيانها الإنساني كياناً جغرافياً، محوراً للتغير المستمر بالتوازي مع عمران المدينة المتغير بدوره. بذلك، يصير الحدث هو المكان بتبدلاته المتكررة، فتأفل شخصيات مع غياب سمات المكان المعهودة. وتستبدل بشخصيات/ أقوام/ طوائف أخرى.

وهكذا، توزَّع ذاكرة المكان بين أناس مجمّدين فيه وآخرين يتعاقبون عليه، وتُقسَّم في حقب زمنية بحسب المستجد السياسي.

بفضل الكتابة، يعيد الطفيلي لحم الذاكرة بالذاكرة، والحدث بالحدث، في سياق بصري لا يهدأ ولا يُفسَح فيه المجال للتجريد أو الإيغال في الشعرية. قبل أن نعرف أن الراوي نفسه في مدينة أميركية، بعيداً جداً عن بيروت.

"اقتفاء أثر" نص تجريبي. الكتابة كيانه الأول، لا جنسها. هو نوع من تأسيس لـ "أندرغراوند" مندثر. كما لو أن الكاتب يدسّ لنا تحت بيروت التي نعيش على سطحها اليوم، بيروتَ أخرى، مستقدمة من الحرب والخوف والتهديد والموت، لكنها أكثر وضوحاً كذلك. نشعر بعد القراءة أننا على وشك حزم حقائبنا والعودة إليها فوراً.

المساهمون