غياب الفلسطينيين عن الغاز في شرق المتوسط

28 اغسطس 2020

صياد فلسطيني قبالة غزة حيث يمنع الفلسطينيون من التنقيب عن الغاز (27/7/2017/فرانس برس)

+ الخط -

تصاعدت، أخيرا، التوترات بين دول حوض شرق البحر الأبيض المتوسط، نتيجةً للتنافس القائم بينها على استغلال الموارد الطبيعية المكتشفة حديثًا في المنطقة نفسها، وأهمها احتياطات الغاز. ونتيجة لذلك، طفت على السطح مجموعة من التوافقات السياسية بين دول هذه المنطقة، بغرض تنسيق المصالح الإقليمية والدولية السياسية والاقتصادية والأمنية المشتركة، جديدها اتفاقا ترسيم الحدود المشتركة بين مصر واليونان من جهة، وتركيا وليبيا من جهة أخرى، وقبل ذلك وقعت إسرائيل واليونان وقبرص، اتفاقًا لمد خط أنابيب شرق المتوسط "إيست ميد"، لنقل الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى أوروبا. 

وفي خضم ذلك كله، لا يُسمع للفلسطينيين صوتٌ في جلّ هذه التطورات السياسية الراهنة في شرق المتوسط، باستثناء مصادقة الحكومة الفلسطينية قبل أقل من شهرين على الانضمام إلى "منتدى غاز شرق المتوسط"، بهدف تثبيت الحقوق المائية والغازية للفلسطينيين، وبمبرّر عدم الدخول في حالة الاستقطاب والمحاور الإقليمية.

تُعدّ حقول الغاز الفلسطينية من أوائل الحقول المكتشفة حديثًا في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط

تُعدّ حقول الغاز الفلسطينية من أوائل الحقول المكتشفة حديثًا في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، ففي عام 2000 أعلنت مجموعة "بريتش غاز" البريطانية اكتشافها حقل "غزة مارين"، وهو يبعد نحو 36 كيلو مترا من الشاطئ، وباحتياطي يُقدر بنحو 1.4 ترليون قدم مكعبة، وبإنتاج سنوي يُقدر بنحو 1.5 مليار متر مكعب، ويقع بين محوري غاز يتوسعان بسرعة بين مصر وإسرائيل، وكلاهما اجتذب استثمارات ضخمة في السنوات الأخيرة. وبعد أقل من عقد بدأت إسرائيل في الإعلان عن اكتشاف حقول للغاز في منطقة شرق المتوسط، فمنذ عام 2009، أعلنت عن اكتشاف عشرة حقول، وهي "تمار" و"داليت" و"لوياثان" (ليفياثان) و"سارة" و"ميرا" و"تانين" و"شمشون" و"كاريش" و"شمن" و"دانيال"، وباحتياطي غير مؤكد يقدر بأقل من 46 ترليون قدم مكعبة من الغاز، تتركز أهمها في حقل "تمار" الذي يقدر احتياطي الغاز فيه بنحو 10 ترليون قدم مكعبة، وحقل "لوياثان" (ليفياثان)، وباحتياطي يقدر بأكثر من 16 تريليون قدم مكعبة، وحقل "دانيال" المكتشف مؤخرًا، وباحتياطي يقدر بنحو 8.9 ترليون قدم مكعبة.

ومع توالي الاكتشافات الغازية، بدأت بلدانٌ عديدة في حوض شرق المتوسط التنقيب عن الغاز، ففي عام 2011، أعلنت قبرص عن اكتشاف أول حقل غاز يحمل اسم حقل "أفروديت"، وباحتياطي يقدر بنحو 4 ترليون قدم مكعبة. وفي 2019، أعلنت عن اكتشاف حقل آخر باسم "غلافكوس"، وباحتياطي يقدر بنحو 5 إلى 8 ترليونات قدم مكعبة، ومن المرجّح أن تساهم هذه الاكتشافات في تعزيز العمل في حقل "كاليبسو" القبرصي الذي يقدّر احتياطي الغاز فيه بنحو 6 إلى 8 ترليونات قدم مكعبة.

أحيت اكتشافات الغاز المتوالية في شرق المتوسط آمال بلدان عديدة

وأحيت اكتشافات الغاز المتوالية في شرق المتوسط آمال بلدان عديدة، فمنذ عام 2015 أعلنت مصر عن اكتشاف وإعادة اكتشاف حقول "ظهر" و"نورس" و"شروق" و"أتول" و"نور" و"شمال الإسكندرية" و"آبار شمال شرق الدلتا". ويعدّ حقل "ظهر" الأكبر، وبحصة تصل إلى نحو 30 ترليون قدم مكعبة. وعلى نحو متصل، تعزّز تركيا واليونان جهودهما في التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وفضلًا عن ذلك، تسعى الأخيرة إلى تقديم نفسها بوصفها ممر الطاقة المتوسطي البديل إلى أوروبا، ففي يناير/ كانون الثاني الماضي، وقعت قبرص واليونان وإسرائيل على اتفاق ثلاثي يمهد الطريق أمام مد خط أنابيب الغاز بطول 1900 كيلومتر، ويحمل اسم "إيست ميد" لنقل الغاز الطبيعي من منطقة شرق البحر المتوسط إلى أوروبا.

على مدى أكثر من أربعة عقود، تهيمن إسرائيل على جميع حقول الغاز الفلسطينية، وتمارس جميع أنواع الهيمنة والتعطيل والإلغاء لحق الفلسطينيين بأن يستفيدوا من ثروة الغاز القريبة من شواطئ غزة. ففضلًا عن أن كاتب هذا المقال يعتبر جميع الحقول القريبة من شواطئ البحر الأبيض المتوسط الواقعة ضمن المساحة الجغرافية لفلسطين الانتدابية حقا للفلسطيني المستعمَر، وليس للإسرائيلي المستعمِر، وضعت إسرائيل يدها على حقول الغاز الأربعة القريبة من شواطى غزة، والتي تعدّ وفقًا لاتفاقات أوسلو من نصيب الفلسطينيين، وهي حقول "غزة مارين" و"ماري – بي" و"نوا" و"شمشون"، والتي يقدّر إجمالي الاحتياطي المؤكد فيها بنحو 6 ترليونات قدم مكعبة. وكان من المقرّر أن تقدم حقول الغاز القريبة من شواطئ غزة عائدات تقدر بأكثر من 4.5 مليارات دولار سنويًا.

تهيمن إسرائيل على جميع حقول الغاز الفلسطينية، وتمارس جميع أنواع الهيمنة والتعطيل والإلغاء لحق الفلسطينيين بأن يستفيدوا من ثروة الغاز القريبة من شواطئ غزة

 

وكانت السلطة الفلسطينية في أكتوبر/ تشرين الأول 1999 قد وقعت اتفاقًا تتقاسم بموجبه مجموعة "بريتش غاز"، وبحصة 60%، واتحاد المقاولين العرب، وبحصة 30%، وصندوق الاستثمار الفلسطيني، وبحصة 10%، مجموع حصص عائدات الغاز القريب من شواطئ غزة ولمدة 25 عامًا، وتُمنح بموجبه المجموعة البريطانية حقًا حصريًا في البحث والتنقيب وتسويق غاز غزة. وعلى الرغم من غياب إسرائيل عن الاتفاقية، إلا أنها كانت حاضرة في جميع تفاصيلها، إذ اتفق جميع أطراف الاتفاقية على أن تكون عمليات البحث والتنقيب والتوريد بموافقة إسرائيل، ما منح الأخيرة فرصةً لتعطيل اكتشافات الغاز الفلسطينية.

في مايو/ أيار 2007، حاولت الحكومة الإسرائيلية إنكار وجود الفلسطينيين، بالقفز على اتفاق السلطة الفلسطينية بعقد مفاوضات مع مجموعة "بريتش غاز" تنقل بموجبه الأخيرة الغاز من حقل "غزة مارين" إلى إسرائيل، مقابل تزويد إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة بالكهرباء، إلا أن الاتفاق فشل، وعُلّقت المفاوضات بين الطرفين. وعام 2016، ونظرًا إلى عدم تمكّن المجموعة البريطانية من تطوير الحقل وتحويل الغاز الموجود فيه إلى محطة التوليد في غزة، أصبحت مجموعة "رويال داتش شل" المساهم والمشغل الرئيس في الحقل، وذلك بعد شراء حصة "بريتش غاز" مقابل 54 مليار دولار. وفي مارس/ آذار 2018، ونتيجة التعقيدات الإسرائيلية التي منعت "شل" من البحث والتنقيب عن غاز قرابة شواطئ غزة، صادق مجلس الوزراء الفلسطيني على طلب "شل" الخروج من ائتلاف الشركات المطوّرة لحقل "غزة مارين". وقد استدعى ذلك إعلان صندوق الاستثمار الفلسطيني عن مساعيه إلى بناء تحالفٍ جديدٍ لتطوير حقل "غزة مارين" يضم الصندوق واتحاد المقاولين العرب، وبحصة تصل إلى 27.5% لكل منهما، وتخصيص 45% لشركة عالمية مطوّرة، يصادق عليها مجلس الوزراء الفلسطيني.

التحالف المصري الإسرائيلي في موضوع الغاز يقضي على أحلام الفلسطينيين بتطوير حقول الغاز الخاصة بهم

إضافة إلى ذلك، عطّلت مصر قدرة الفلسطينيين على البحث والتنقيب وتطوير حقول الغاز الفلسطينينية القريبة من شواطئ غزة. عام 2005، وقعت الحكومة المصرية اتفاقًا يقضي بتصدير قرابة 1.7 مليار متر مكعب سنويًا إلى إسرائيل لمدة 20 عامًا، بثمن بخس لا يتجاوز دولارًا ونصف الدولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. وقد أدركت شركة "بريتش بيتروليوم"، في حينه، أن جهودها في تطوير حقول الغاز الفلسطينية القائمة على نقل غاز غزة عبر الموانئ المصرية وبيعها إلى إسرائيل سيكون مصيرها الفشل، بسبب بيع مصر غازها إلى إسرائيل بأسعار بخسة. ونتيجة ذلك، ظلت مصر، إلى غاية 2011، تعدّ المورد الرئيس لإسرائيل، ما قضى على مسببات تطوير حقول الغاز الفلسطينية، وأصبحت في حينه مصر معطلًا رئيسًا لجهود "بريتش غاز" في تطوير حقول غزة، وهو ما دفع الشركة إلى وقف أعمال البحث والتنقيب. 

أخيرا، بدا أن التحالف المصري الإسرائيلي في موضوع الغاز يقضي على أحلام الفلسطينيين بتطوير حقول الغاز الخاصة بهم، فمن جهة، يُعدّ إعلان مصر في يناير/ كانون الثاني 2019 تأسيس "منتدى غاز شرق المتوسط" الذي يضم إسرائيل، وبغرض إنشاء سوق غاز إقليمية لتصدير الغاز، مسعىً مصريا إلى ضمان وصول الغاز الإسرائيلي إلى مزيد من البلدان العربية والأوروبية، من بينها فلسطين، التي يُصرّح مسؤولوها على أن ثمّة ضغوطا تمارَس عليهم للمحافظة على عملية استيراد الغاز من إسرائيل، ما يعني أن لا حاجة ماسّة لتطوير الفلسطينيين حقول الغاز القريبة من غزة. وهذا يعني أن الانضمام إلى المنتدى يعد من ساحات إلغاء حقوق الفلسطينيين المائية والغازية. ومن جهة أخرى، يُعدّ إعلان شركة "دولفين القابضة" المصرية في فبراير/ شباط 2018 عن طريق شركة "نوبل إنيرجي" توقيع اتفاقية مع مجموعة "ديليك للحفر" الإسرائيلية بقيمة 15 مليار دولار، تزوّد بموجبها إسرائيل مصر بالغاز الطبيعي، ضربة قاضية لتطوير حقول الغاز الفلسطينية.

 يعطّل الانقسام الفلسطيني قدرة الفلسطينيين على البحث والتنقيب وتطوير حقول الغاز الفلسطينية القريبة من شواطئ غزة

زِد على ذلك، يعطّل الانقسام الفلسطيني قدرة الفلسطينيين على البحث والتنقيب وتطوير حقول الغاز الفلسطينية القريبة من شواطئ غزة، ففضلًا عن التعطيلين، الإسرائيلي والمصري، منذ مطلع الألفية الثانية من القرن الحالي، بدا أن الانقسام الفلسطيني منذ عام 2007 أعطى إسرائيل ذريعةً للقفز عن الفلسطينيين، وبدء عملية التفاوض مع "بريتش غاز" بعيدًا عن العقد الموقع بينها وبين السلطة الفلسطينية. وقد فشلت هذه المفاوضات بسبب رفض "بريتش غاز" التعاون مع إسرائيل في غياب السلطة الفلسطينية، ما أثار تساؤلاتٍ مهمة في حينه على لسان في "بريتش غاز" أبرزها، مع من ستتقاسم الشركة الأرباح المستقبلية، هل تتقاسمها مع إسرائيل التي لا تُعدّ طرفًا في الاتفاق؟ أم مع السلطة الفلسطينية التي فقدت السيطرة على غزة؟ أم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي قاطعها المجتمع الدولي في حينه؟

 غياب الفلسطينيين القسري عن اكتشافات الغاز الحديثة في شرق المتوسط يقلل من حظوظهم في تحقيق أهدافهم وأحلامهم بالاستثمار في ثروتهم

وفي عام 2012، حاولت "حماس" التنقيب عن الغاز باستعمال أدوات محلية، لكن اشتداد الحصار على غزة، والمترافق مع تغييرات إقليمية، أهمها الانقلاب العسكري في مصر في يوليو/ تموز 2013، أوقف كل هذه المحاولات المحلية. ومنذ يونيو/ حزيران 2014، سعت أول حكومة وفاق وطني منذ الانقسام الفلسطيني إلى إعادة تفعيل عملية البحث والتنقيب عن الغاز القريب من شواطئ غزة، والتواصل مع شركاتٍ روسيةٍ وصينيةٍ وهولنديةٍ لاكتشاف حقول الغاز وتطويرها، بدلًا عن "بريتش غاز" التي كانت تبحث، في حينه، عن بيع حصتها، لكن التعقيدات الداخلية المرتبطة بالتناحر الفلسطيني، والبحث في تفاصيل هامشية، مثل أولوية "تمكين الحكومة" و"إعادة الشرعية" و"فرض السلطة الواحدة" في غزة، أفقدت الفلسطينيين القدرة على الاستثمار في أحد الموارد الطبيعية المهمة.

استنادًا إلى كل ما سبق، يبدو أن غياب الفلسطينيين القسري عن اكتشافات الغاز الحديثة في شرق المتوسط سيقلل من حظوظهم في تحقيق أهدافهم وأحلامهم بالاستثمار في ثروتهم. وبعبارة أخرى، من شأن هذا الغياب وعدم القدرة على التأثير في مسار الأحداث الراهنة أن يُنكر على الفلسطينيين حقا من حقوقهم. صحيحٌ لا يملك الفلسطينيون قدرةً على التأثير في مسار التطورات الراهنة في شرق المتوسط، ولكن لا يمكن عدّ خطوة الانضمام إلى "منتدى غاز شرق المتوسط"، بوصفها الخطوة التي تمكّننا من التأثير على ذلك كله. هذا حق جديد منهوب، يُضاف إلى قائمة الحقوق المنهوبة من الشعب الفلسطيني.