غضب القطة

28 مايو 2015
+ الخط -
في عمّان، تنهض القصة القصيرة، الآن، من رقدتها الطويلة، مثل جنية العالم الحزينة. تتوهج من جديد، تملأ الدنيا تكسيراً وتسلقاً لأسوار المؤسسات وشتم الثرثارين وتحطيم زجاج الجيران النائمين بطمأنينة بدينة. 
يعود من جديد ملتقى القصة العربي بعد انقطاع ثلاث سنوات، بدعم من أمانة عمان، ومبادرة من القاصة، بسمة النسور، ليستكمل وفاءه ورسالته وصمته الحاكي تجاه العالم وقضايا الأمة وهموم الإنسان. عشرات من المبدعين العرب والأردنيين يتخندقون في ملتقى عمان للقصة القصيرة وراء متاريس (فن الرجل الصغير) كما سماه ناقد مصري، احتفالاً أو تدشينا لعودة الاعتراف بفن الشغب البريء، الذي طالما احتجناه، لنقول الجمال الخفيف ولقطة الإحساس المكثف، ومشهد الألم الشفيف، والغموض الحلو.
لطالما تساءلت، في بداية مشواري القصصي في فلسطين، عن سبب تدفق الإنتاج القصصي في الأردن، خصوصا ما تكتبه النساء منه، أميمة ناصر، جواهر رفايعة، بسمة النسور، رفقة دودين، سامية العطعوط، وأخريات كثيرات ملأن ملاحق الصحف الثقافية في الأردن حضوراً سردياً مميزاً. وكانت الإجابات تتنوع وتتفارق، وكان دائما سؤالي الثاني يتدفق: لماذا تعاني فلسطين من قلة الإنجاز القصصي؟ هل بسبب الاحتلال كما هو متوقع، أم بسبب غياب المدينة وعمقها، أم بسبب شح المواهب، وتكسر وقت المبدعين بين هم المعيشة ومعتقل الاحتلال والبحث عن الكتب القليلة، بفعل إغلاق نوافذ الوطن، فكرياً وإبداعياً؟
هذه دعوة إلى مزيد من الاهتمام بهذا النوع الأدبي المظلوم، القطة التي تتحول إلى نمرة أحياناً، كما وصفها القاص المغربي، أنيس الرافعي، تستحق فقط أن ندعها في حالها، وألا نسخر منها، ونتذمر من قصر نفسها، وانحيازها إلى الهامش في المدينة والقلب، بحاجة فقط لأن لا نعرقل روحها، حين تنهض وتنمو وتحكي وتصمت وتطير. يحتاج العالم إلى القصة القصيرة، والقصة الومضة، تماما كما يحتاج الرواية، العالم بكل صخبه وجنونه وموته، يحتاج إلى الكثافة، والكثافة ابنة القصة، وهي أبهى رد على ثرثرة الحروب وصوت الطغاة وشخير الجنرالات. وغير صحيح أبداً أن الرواية هي سيدة العالم وأميرة النص المهيمن على العقول والقلوب، وأنها القادرة على تصوير الوجع الشخصي ومشكلات الإنسان الوجودية، ومقاربة المفارقات والسخرية من العالم. لدى القصة القصيرة طريقة طازجة دوماً لعمل ذلك كله.
القصة حب صغير خائف ينمو في منعطف معتم من منعطفات المدينة، منعطف لا تمر منه عربات فارهة، ولا مطاعم قربه أو مقاهي. القصة سعلة أمّ مريضة، وشهقة مراهقة مترددة. برق في ليلة مستبدة، صورة يلتقطها مصور مصاب بانفصام قلب. ترفض القصة الأعباء، وتمقت الرسائل، وتركل الهم الوطني ركلاً، ليس لأنها ضد الوطن، أبدا بل لأنها ضد استخدام الوطن استخداماً وظيفياً، مباشراً وشعارياَ.
القصة صديقة حميمة للهامس والملمح له والمشار له إشارة. هي أخت الصمت وابنة عم الفراغ. لا تستوعب التاريخ ولا تحبه، والتاريخ أيضا غير معجب بالقصة. الرواية تتحمل ذلك، بين التاريخ والرواية حالة تفاهم وحب، ومن المحتمل أنهما مارسا الحب يوماً ما. وطأة التاريخ أثقل مما تتحمله القصة. القصة بنت صغيرة في الثانوية العامة، ذكية بعيون براقة، لكن، حزينة دوما، ويدين هشتين، تلك الهشاشة الذكية والناعمة. تحب بهمس، وتنتظر حبيبها الغامض بشفافية وهدوء. لا يهمها تاريخ المكان الذي تنتظر حبيبها فيه، ولا يدخل في صلاحيات قلبها أن تحاول تحليل تاريخ الحب ورموزه العالميين، هي تنتظر بصمت فحسب. لا دروس يمكن أن يجرؤ أحد على إعطائها للقصة، على الرغم من شفافيتها وخجلها وصغر قامتها. تعطي القصة العالم أهم درس في العالم، وهو الكثافة، لو فهم هذا العالم الدرس، لامّحت الحروب، وهدأت الصراعات.
كيف نتجاهل قطة تفعل ذلك كله، وشكلها ذلك كله وروحها ذلك كله؟ احذروا غضب القطة، احذروا غضب القطة.
مرحبا بالقصة، وشكرا عمّان.

4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.