بدا غضب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عارماً، أول من أمس السبت، خلال حضوره حفل افتتاح عدد من المشاريع المرفقية والخدمية في الإسكندرية، إذ أولى الاهتمام الأكبر في كلماته المسترسلة لقضية مخالفات البناء، تعليقاً على المعارضة الشعبية المستمرة والمتصاعدة على مواقع التواصل الاجتماعي لقرار وقف كل أعمال البناء على مستوى الجمهورية لمدة 6 شهور والتلويح بوقفها في بعض المحافظات لمدة تتراوح بين 3 و10 سنوات. وتهدد هذه الخطوة بتغيير موازين وسمات الثروة العقارية للأفراد والمستثمرين في البلاد لأجل غير مسمى، وبتعطيل أعمال العديد من الفئات ورفع معدلات البطالة، لا سيما للعمالة المؤقتة في قطاعات المعمار والمقاولات والتشطيبات والنقل والشحن واستيراد وتجارة خامات وأدوات المقاولات.
هدّد السيسي بنزول الجيش إلى كل القرى لضبط المخالفات
لكن ثمة دلالتين أساسيتين لحديث السيسي الأخير عن وقف البناء والمشاريع المرتبطة بهذا الملف، أولاهما تتمثل في فشل الحكومة في جمع الغرامات المستهدفة من عمليات التصالح حتى الآن، على الرغم من مرور شهرين ونصف من فتح باب الطلبات. والدلالة الثانية هي سعي السيسي لتحميل مسؤولية ما آلت إليه أوضاع مخالفات البناء من أضرار جسيمة، على الرقعة الزراعية والأراضي الداخلة في أملاك الدولة وأوضاع المرافق المتهالكة وغياب التخطيط، لكل الجهات التنفيذية تقريباً عداه هو والجيش، على الرغم من أنه المتحكم الأول في كل شاردة وواردة منذ صيف 2013. وهو تعبير أيضاً عن أحد وجوه خطابه السياسي الموجه للداخل دائماً، فجميع الإنجازات تنسب للسيسي والقوات المسلحة، أما التجاوزات والمخالفات فيحملها السيسي للأجهزة الحكومية، من محافظين ومحليات وشرطة ووزارات قائمة على التخطيط والمرافق والفحص والرصد.
وأكد السيسي هذه الرؤية من خلال تهديده الصريح للمواطنين بـ"نزول الجيش لجميع القرى لضبط المخالفات"، وتهديده الآخر للمسؤولين التنفيذيين الذين لا يستطيعون تنفيذ تعليماته بهدم المباني المخالفة لأسباب اجتماعية أو دينية، أو من لا يستطيعون جمع أكبر قدر ممكن من المبالغ المالية الخاصة بطلبات التصالح، بقوله "إما تكونون رجالاً أو شيئاً آخر". كما طالب السيسي المحافظين ومديري الأمن مساعدي وزير الداخلية، الذين يفشلون في تنفيذ تلك التعليمات، بالاستقالة الفورية.
وامتداداً لتلك التهديدات، عاد السيسي لاستخدام العبارات التي توحي باستغنائه عن السلطة، التي عدّل الدستور لضمان بقائه في سدّتها حتى عام 2030 على الأقل، قائلاً "لو مش عاجبكم الإصلاح أنا مستعد أمشي، نعمل استفتاء، وييجي شخص آخر يخرب مصر"، في تعبير عن رؤيته لذاته كمحتكر لأفكار التقدم وخطط الإصلاح.
وفي الوقت الذي سخر فيه السيسي من اللجان الحكومية المكلفة بالنزول لمعاينة الأوضاع على الأرض وضبط المخالفات وفحص التراخيص، والتي اتهمها ضمنياً بالتراخي والتقاعس، أعلن إنشاء آلية جديدة لمراقبة المخالفات على مستوى الجمهورية باسم "منظومة البنية المعلوماتية المكانية" التابعة للقوات المسلحة، والتي أنفقت عليها الدولة مئات الملايين من الجنيهات لشراء صور فضائية شاملة لجميع المناطق المصرية منذ عام 2011 وحتى الآن، من بعض مقدمي الخدمة العالميين، لتتمكن الآلية من رصد تطور المخالفات.
وبحسب مصادر حكومية مطلعة، فإن هذه الآلية سبق أن طالبت بها الحكومة مرات عدة، ممثلة في الوزارات والأجهزة المعنية بالرقابة على الأراضي، مثل وزارات الإسكان والزراعة والسياحة والعدل، وكان هناك مشروع لإنشائها منذ 5 سنوات، لتكون تابعة مباشرة لرئاسة الوزراء، لكن ما حدث هو شراؤها لحساب الجيش وإسناد إدارتها للهيئة الهندسية للقوات المسلحة. وحصل ذلك بحجة "ضرورتها لمتابعة تقدم المشاريع القومية التي تنفذها" هذه الهيئة، وهو ما يكرس الوضعية المتميزة للجيش. وارتباطاً بانتقاد السيسي للمحافظين والمحليات، فإنه ينوي توسيع دور هذه الآلية لتؤدي الدور المسند للجهات التنفيذية المختصة بالفحص والمعاينة وإعداد تقارير الخبرة والتقييم.
وجّه السيسي انتقادات لكيان غير موجود فعلياً في مصر منذ عقد، وهو المحليات
لكن اللافت أن السيسي لم يكتف فقط بانتقاد مرؤوسيه الذين تمعن دائرته في اختيارهم من بين قيادات الجيش والشرطة والقضاء، وتحيطهم بالمساعدين وممثلي الجهات السيادية والرقابية، وبصفة خاصة الاستخبارات العامة والرقابة الإدارية، بل وجّه انتقادات لكيان غير موجود فعلياً في مصر منذ عقد، وهو المحليات، والتي تقتصر حالياً على الموظفين التابعين لدواوين المحافظات ومجالس المدن، بلا أي تمثيل أو سلطات، في غياب المجالس المحلية المنتخبة.
فبين الخريف والشتاء الماضيين، عقد حزب "مستقبل وطن" المدار حالياً بواسطة جهاز الأمن الوطني في الداخلية المصرية، اجتماعات تحضيرية لإعداد مشروع جديد لقانون المحليات، استجابة للتوجيه الإعلامي الصادر من السيسي نفسه لعقد "حوار مجتمعي" حول مشروع القانون قبل إصداره، في إشارة لعدم تعجله إجراء انتخابات المحليات. لكن المشروع الحكومي الذي سبق أن اعترض عليه الأمن الوطني، ولم يمرر في البرلمان، حظي بالفعل بجلسات دراسة مطولة داخل البرلمان لـ4 سنوات تقريباً، بحضور ممثلين لمختلف الجهات الحكومية والمحلية التي شاركت في الجلسات التحضيرية الأخيرة، والتي ركزت على النظام الانتخابي. ويرغب النظام في اتباع نظام القائمة المغلقة بنسبة 100 في المائة، لتتم هندسة المجالس المحلية بالكامل قبل فتح باب الترشيح، وأن تضم القوائم نسباً مختلفة للأحزاب الصغيرة في محافظات مختلفة، وليس في كلها.
كما تتجه النية حالياً لتقسيم مشروع القانون إلى اثنين أو ثلاثة، ليتم إفراد المواد الخاصة بالانتخابات وتكوين المجالس المحلية في قانون منفرد، على أن يخصص قانون آخر أو اثنان للمواد الخاصة بالمحافظين وسلطاتهم وصلاحياتهم والإدارة المحلية ووحداتها المختلفة، على أن يتم إلغاء القوانين السابقة المنظمة لذلك الملف نهائياً. وتقترح المناقشات الحاصلة حول التعديل الدستوري المقبل في دائرة السيسي تعديلاً شاملاً للمواد المنظمة للمحليات، لتصبح متكاملة مع التشريع الذي سيصدر لتنظيم انتخاب المجالس المحلية واختصاصاتها، مع إباحة حلّ المجالس المحلية المنتخبة بقرار من رئيس الجمهورية.