تطورت الأحداث بشكل سريع في الجنوب التونسي، خصوصاً في محافظة تطاوين، حيث تتواصل الاحتجاجات، منذ قرابة الشهرين، دون التوصل إلى حل نهائي ينهي الأزمة التي تستفحل يوماً بعد يوم، لا سيما بعد مقتل أحد المحتجين، ليكون أول ضحية للمواجهات بين شبان تطاوين وقوى الأمن التونسية. وبلغ الاحتقان أقصاه، أمس الإثنين، إذ شهدت مدينة تطاوين حالة من الاحتقان الشديد بعدما حاول المحتجون اقتحام مقر المحافظة رافعين شعار "ارحل" في وجه المحافظ الجديد، محمد علي البرهومي، الذي تم تعيينه بعد زيارة رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، إلى الجهة. وطالب المحتجون برحيله تنديداً باستعمال الغاز المسيل للدموع وبالتعزيزات الأمنية الكبيرة التي التحقت بالجهة منذ مساء الأحد، لإنهاء تعطيل ضخّ البترول في منطقة المأمور بالصحراء التونسية.
وسقط شاب قتيلاً في المواجهات "عن طريق الخطأ" بحسب مصادر حكومية، بينما يؤكد أبناء المنطقة أن سيارة أمن دهسته في منطقة الكافور (تبعد نحو 110 كلومترات عن مركز محافظة تطاوين). لكن وزير التكوين المهني والتشغيل التونسي، عماد الحمامي، قال إن الشاب الذي توفي في تطاوين "دهسه زملاؤه أثناء توجّههم لحرق منطقة الأمن في المحافظة" في رواية يحلو لكثيرين في تونس تشبيهها بنوع الروايات التي كان يطلقها النظام المخلوع خلال الثورة.
وقالت إذاعة تطاوين المحلية، إن محتجين قاموا بإضرام النار في مقري الأمن والحرس بالمدينة. وأصدر "الاتحاد العام التونسي للشغل" بياناً صادراً عن المكتب التنفيذي الموسع، حذّر فيه من التصعيد الحاصل في المنطقة النفطية بكلّ من تطاوين وقبلّي "وندعو الشباب المعتصم إلى عدم الانسياق وراء الدعوات التي تدفع إلى التصادم مع الجيش وإنهاكه وإلى تعطيل الإنتاج". وأضاف أن الاتحاد يعتبر "الحكومة ملزمة بالحضور ميدانياً وبمواصلة التحاور مع الشباب وإيجاد الحلول الفعلية والنّاجعة". وحمّل "بعض الأطراف التي تسعى إلى توظيف التحرّكات الاجتماعية مسؤولياتهم"، داعياً إياها إلى "النّأي بالجهات وبمصلحة تونس عن كلّ التجاذبات والأجندات والمساهمة الإيجابية في البحث عن الحلول بدل الدفع إلى تعجيز الدّولة ومحاولة إضعافها"، وفق بيان "اتحاد الشغل".
ودعا المحافظ البرهومي إلى ضبط النفس وطالب بسلمية الاحتجاجات، مؤكداً في تصريح لـ"إذاعة تطاوين" أن التعاطي الأمني والعسكري سيكون سلمياً طالما حافظت الاحتجاجات على السلمية. وقال إن التظاهر يبقى حقاً دستورياً وإن قوات الأمن لن تفض الاعتصامات بالقوة. وشدد على أن الحكومة تعمل على التسريع في تفعيل الاتفاقيات الخاصة بالتشغيل في تطاوين، معلناً عن اجتماع قريب مع الحكومة للتفاوض مع المحتجين.
وكانت المدينة شهدت، منذ يومين، وصول تعزيزات أمنية وعسكرية كبيرة للجهة، لحماية المنشآت النفطية وفتح مضخة البترول التي فرض المعتصمون إغلاقها، يوم السبت الماضي، ليتم فتحها من جديد صباح الأحد، وهو ما أثار المعتصمين الذين حاولوا أمس فتحها من جديد، ولكن قوات الحرس والجيش ردت عليهم بإطلاق الغاز المسيل للدموع. ويلخص هذا المشهد في تطاوين تفاصيل المشهد السياسي التونسي، إذ قررت الحكومة الدفاع عن نفسها عبر تحصين الإنتاج والحفاظ على مواردها المالية في وجه ما تقول الحكومة إنها محاولات من المعارضة لتحريك الشارع لحرمانها من هذه الموارد.
ولكن تصرف الحكومة على هذا النحو لا يضرب المعارضة وحسب، لأنها ليست وراء كل الاحتجاجات وإنْ كانت تستفيد منها طبعاً، بل يلحق الغبن بالشباب بدلاً من معالجة مشاكلهم. ومشاكل التنمية معلومة من الجميع والشباب في أغلبه فاقد للصبر، خصوصاً أمام انسداد أفق فرص العمل وتحسين ظروف العيش، وشبان تطاوين أثبتوا في الظاهر على الأقل أنهم يرفضون تسييس مطالبهم. ويبدو أن الحكومة حسمت أمرها نهائياً في خصوص التعاطي مع الاحتجاجات الشعبية عموماً، والمعارضة السياسية أيضاً. وصعدت الحكومة من لهجتها أمام الجميع، وأصدرت وزارة الدفاع التونسية بياناً غير مسبوق، حذّرت فيه "كافة المواطنين من التبعات القضائية نتيجة التصادم مع الوحدات العسكرية والأمنية والأضرار البدنية التي يمكن أن تلحق بهم في صورة التدرج في استعمال القوة مع كل من يحاول الاعتداء على أفرادها أو منعهم من أداء مهامهم أو من يحاول الولوج عنوة إلى داخل المنشآت التي يقومون بحمايتها"، وفق البيان.
وبدوره، أكد الأمين العام لـ"الاتحاد العام التونسي للشغل"، نور الدين الطبوبي، أن مطالب المحتجين شرعية وعلى الحكومة فتح قنوات حوار جدية معهم في حدود إمكانياتها، ولكنه دعا المحتجين في المقابل إلى عدم الانسياق وراء أطراف تريد ربح نقاط سياسية على حساب المصلحة العامة للبلاد. ويكمن هنا بالذات موقع الداء، إذ ارتكبت الحكومة أخطاء كبيرة في ملف تطاوين بالذات، ولم تحسم أمرها منذ البداية. ويذكر المراقبون أن المقترحات الأولى التي قدمتها الحكومة أثناء زيارة الشاهد، منذ حوالي شهر تقريباً، كانت تتمثل في "60 موطن شغل في الشركات البترولية و500 موطن شغل في شركات البستنة"، ولكنها قفزت بعد ذلك إلى انتداب "1000 شخص في الشركات البترولية، و500 آخرين خلال سنة 2018، بالإضافة إلى انتداب 1000 شخص في شركة البستنة والبيئة و1000 آخرين في السنة المقبلة، إضافة إلى رصد 50 مليون دينار لصندوق التنمية الاستثماري المخصص للجهة". وهذا ما دفع إلى الاستغراب من ناحية، وإلى فتح "شهية" محتجين في مدن أخرى من ناحية ثانية. لكنه ربما دفع محتجي تطاوين إلى رفع سقف مطالبهم، وربما شعروا بضعف الحكومة أيضاً فتمادوا في أشكال احتجاجهم.
ويبدو المشهد الآن بمثابة المأزق للجميع، حكومة ومحتجين، وقوى أمن، إذ لا أحد قادر على احتساب نتائج الخطوة الموالية، ولكنها تفترض في كل الحالات تدخلاً عاقلاً لإعادة الجميع إلى الحوار والبحث عن حلول هادئة بعيداً عن التشنج الذي سيقود إلى خسارة الجميع.