غسان كنفاني... يكتب لألبانيا

08 مايو 2016
(تيرانا: دار نشر كوها، 2015)
+ الخط -
في العقود الثلاثة الأخيرة شهدنا نشاطاً كبيراً في الترجمة من الآداب الأجنبية إلى الألبانية، وبالتحديد بعد سقوط آخر قلعة للستالينية والجدانوفية في أوروبا (ألبانيا) حيث كانت الترجمة تتم وفق المعايير الماركسية- اللينينية أيضاً، ولذلك حُرم الألبان خلال عقود من التعرّف على الأدب العالمي باعتباره من نتاج "البرجوازية المنحطة". ومع أن نظام أنور خوجا 1945-1985 كان يؤيد سياسياً الفلسطينيين في كفاحهم لأجل حقوقهم واعترف بـ "منظمة التحرير الفلسطينية" وافتتح لها مقراً في تيرانا، إلا أن الأدب الفلسطيني بقي مجهولاً تماماً كما هو الحال مع آداب الشعوب الأخرى. وعلى العكس من ذلك كان النصف الآخر للألبان في يوغسلافيا التيتوية (كوسوفو) قد تعرّف على الأدب الفلسطيني مترجماً إلى الألبانية منذ سبعينات القرن الماضي، بما في ذلك أشعار زياد القاسم ومحمود درويش ومعين بسيسو وسميح القاسم وقصص غسان كنفاني، ضمن الاهتمام بآداب شعوب دول عدم الانحياز سواء من خلال اللغة الفرنسية وغيرها، ثم من خلال اللغة العربية مباشرة مع افتتاح قسم الاستشراق في جامعة بريشتينا عام 1973.

ومع ذلك يمكن القول إن صدور رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني في كانون الأول 2015 يمثل حدثاً ثقافياً يعيد الاعتبار إلى الشعب الفلسطيني وأدبه، وذلك لأكثر من سبب. فقد حظيت الرواية بمترجم متمكّن وهو أيوب رمضاني، وناشر معروف "كوها"، وبتقديم من روائي ألباني بارز بسنيك مصطفى، وتعريف بغسان كنفاني على الغلاف الخلفي من قبل زوجته السويدية الوفية آنا، وكل هذا يكفي في حد ذاته لجعل هذه المناسبة استثنائية بل احتفالية بغسان كنفاني وعطائه.

كان المترجم أيوب رمضاني قد ذهب إلى القاهرة في 1974 لدراسة اللغة العربية والترجمة، وهناك قرأ الأدب العربي لكي يتمكن أكثر وأكثر من اللغة والترجمة. وكان مما قرأ آنذاك أكثر من مرة رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، ولكنه تذكرها فجأة بعد عشرين سنة بعد ما حلّ بالألبان في كوسوفو ما حدث للفلسطينيين من تهجير بعد انهيار يوغسلافيا التيتوية، وقرّر بذلك أن يترجمها بعد أن وجدها في قسم للدراسات الشرقية بألمانيا عام 2006. ويقول المترجم متندّراً أنه حتى عندما كانت الرواية تنتظر الطبع في 2015، كان الألبان يعيشون إحباطاً جديداً ويستسلمون لشبكات التهريب للوصول إلى أي بلد أوروبي حتى يجدوا عملاً يعيلون به عائلاتهم.

أما الشاعر والروائي بسنيك مصطفى، الذي كان أيضاً سفيراً لألبانيا في باريس ووزيراً للخارجية خلال 2005-2007، فقد ساهم أكثر من خلال مقدمته في أن يجعل هذه الرواية ذات مغزى للألبان. ففي مقدمته يذكّر مصطفى بالشاعر والمترجم "فان نولي" الذي أسّس لمدرسة في الترجمة تقوم على أن ما يُترجم إلى الألبانية "يجب أن يخدم الألبان في المقام الأول لكي يعرفوا ويتعرّفوا بشكل أفضل على ذاتهم ومأساتهم الجماعية وعن حلمهم للمستقبل". و"بهذا المعنى فإن المترجم يتجاوز حدود العمل اللغوي والأدبي والثقافي البحت ويتحول إلى ناشط اجتماعي وحتى سياسي"، وهو ما ينطبق برأيه على المترجم أيوب رمضاني والعمل المترجم "رجال في الشمس".

ومن هنا يقول مصطفى إن "كل من يقرأ هذه الرواية يعرف ما الذي دفع أيوب رمضاني إلى ترجمتها". فالرواية تستعرض مصير الفلسطينيين بعد تأسيس دولة اسرائيل، أي بعد أن تحولوا في بلادهم إلى "غرباء" وأصبح مصيرهم صعباً إلى حد أن حلمهم تمركز حول البقاء والاستمرار كشعب، والبحث عن أي طريق للاغتراب لأجل العمل وتوفير بعض ما يكسبونه لمساعدة أسرهم الباقية في البلاد. ولذلك "تبدو محاولات هؤلاء للبقاء على قيد الحياة فوق ما يحتمله البشر ودرامية بعمق وعارمة بحب الحياة". ويلاحظ مصطفى في تحليله للرواية، أن أبطال "رجال في الشمس" يتميزون في مشاعرهم بالمفارقة الحادة. فهم من ناحية يبدون محبطين وبدون أمل، ولكن من ناحية أخرى يظهرون مصممين على الوصول إلى هدفهم وتحمل مسؤولياتهم تجاه أسرهم التي تحتاج إلى مساعدتهم. وتكتمل مأساتهم في معاناتهم ما بين شبكات التهريب ورجال الحدود للدول التي يأملون في الوصول إليها، ولذلك لاينجح الجميع في الوصول إلى الهدف لأن البعض يموت بسبب الظمأ أو الجوع قبل الوصول إلى هدفهم.

ومع أن مصطفى يعترف أنه لم يقرأ سابقاً أي عمل لغسان كنفاني، إلا أنه يقول إن هذه الرواية التي تأتي الآن في اللغة الألبانية تكفي للقول إن غسان كنفاني كان "معلماً ماهراً في الأدب".

ويرى مصطفى أن غسان كنفاني، شأنه شأن الكتاب الفلسطينيين، إذ يحرص على أن يعرّف القرّاء على معاناة الشعب الفلسطيني الذي احتلت أرضه، إلا أنه يحرص أيضاً على ألا يختار الأسلوب السهل أو المباشر للتعبير عن ذلك، بل على أن يوصل لنا أهم ما لدى هذا الشعب من الكفاح الإنساني في سبيل البقاء والكفاح ضد العدو الذي لا يظهر هنا. فالعدو هنا لا يظهر بلباسه الرسمي وأسلحته، وهو بذلك "يعرض للمعاناة الإنسانية التي نشأت عن وجود ذلك العدو".

وبالعودة إلى الترجمة الجيدة التي أنجزها أيوب رمضاني لـ "رجال في الشمس"، يقول مصطفى في ختام تقديمه أن المترجم نجح مع هذه الرواية في إثبات أن اللغة الألبانية "يمكن لها أن تعبّر عن الروح الإنسانية".


ومن ناحية أخرى فقد كان من المناسب أن تقوم السويدية آنا كنفاني بالتعريف بزوجها على الغلاف الخلفي للرواية، عن ولادته في عكا عام 1936 وعن انتقاله إلى يافا إلى أن اضطرت أسرته إلى مغادرة فلسطين دونما رجعة في أيار 1948، ليتنقل غسان بعدها ما بين لبنان وسورية والكويت، ويستقر أخيراً في لبنان حيث تم اغتياله مع حفيدته لميس في حزيران عام 1972. ومع أنه لم يكن يتجاوز السادسة والثلاثين حينها، إلا أن غسان كان قد أصبح اسماً معروفاً في الأدب الفلسطيني بإصداره ثمانية عشر عملاً أدبياً ونشره لمئات المقالات، كما أصبح معروفاً في العالم بعد أن تُرجمت أعماله إلى 19 لغة ونشرت في عشرين دولة. وتختم آنا ما تعرفه عن زوجها بالقول "مع أن أعماله الأدبية تمركزت حول الشعب الفلسطيني، إلا أن موهبته الفنية منحت أعماله مقاربة عالمية".

ومع الجملة الأخيرة يمكن القول إن الألبان سيجدون أنفسهم في الرواية كما لو أن الرواية كُتبت لأجلهم أو عنهم، لأن التهجير والتشريد والاغتراب عن الوطن صفات ميزت الشعب الألباني على مدار القرن الأخير، ولذلك فإن المترجم أيوب رمضاني أحسن في الاختيار كما أحسن في الترجمة ليجعل غسان كنفاني يُقرأ في الألبانية بمتعة خاصة.

أكاديمي كوسوفي/ سوري


المساهمون