غزّاويّات: من قهقات الحرب علينا

23 يوليو 2014
الصورة لسايمون راولز/ Getty
+ الخط -
 
الأربعاء 23 يوليو/تموز. الساعة 12 ظهراً بتوقيت غزّة.

اتّصلتُ بصديقة سمعتُ عن قصف منزلها، نزحتْ إلى بيت عائلة زوجها بعدما خسرت المنزل الذي تعبت في بنائه وتأثيثه. كنت أتوقّع أن أسمع صوتها منهاراً ومدمّراً، لكن حين هاتفتها كان ردّها التالي:

- شو أخبارك؟

- نحمد الله على كلّ حال.

- يلا الله. المال بيتعوّض، الحمد لله اللي ما صار شي للولاد.

- لا. الحمد لله.

- طيّب وهلّق إنتي "عاملة إيه"؟

سألتها هذا السؤال باللّهجة العامية فجاوبتني بكلّ هدوء: بدّي أعمل فتّة حمّص والحلو قطايف بالقشطة.

 حقاً نحن شعب الجبّارين.. في الواقع سأوفّر الاتصالات لأنّني بصراحة مطمئنة على هذا الشعب الجبار.

*****

كنت قد انشغلت لمدّة يومين في محاولة تأمين بيوت وأماكن إيواء عائلات هجرها القصف الإسرائيلي من بيوتها ونزحت نحو قلب المدينة أملاً في أمانٍ كاذب أو مؤقّت. لا مكان آمن في غزّة ، لا تحت حجر ولا أسفل شجر.

هذه المغامرة الاضطراريّة بدأت خلال محاولاتي إخلاء أبي العجوز من منزله في منطقة حدودية شرقية تعرّضت لأعنف موجات القصف البريّ والجوّي.

وجدتني أبحث، من خلال مكاتب العقارات، ومن خلال علاقاتي المتعدّدة، عن شققٍ سكنيّة أولاً، ثمّ عن عيادات الأطباء والمكاتب والمحلاّت والمخازن التجارية المغلقة بسبب الحرب. فكنت أتصل بطبيب أعرفه آملةً أن يترك لي مفتاح العيادة في مكان ما كي تتوّجه أكثر من عائلة للإقامة في العيادة.

المفارقة التي واجهتني عند محاولتي تأمين شقق النازحين هي السؤال الذي واجهته من الجميع  دون استثناء: هل ينتمي السكان إلى فصيل سياسي معيّن؟ وهل لمعارفهم نشاط معروف مع المقاومة الفلسطينية؟

يسأل أصحاب الشقق هذه الأسئلة ليس كرهاً بالمقاومة الفلسطينية، ولا انحيازاً ضدّها، بل خوفاً من أن تصبح شققهم مستهدفة بقصف الطائرات في حال هروب أحد المطلوبين واحتمائهم داخلها. 

كنتُ في كلّ مرّة أردّد على مسامع مالك الشقّة "عيب، على ضمانتي، على مسؤوليتي، برقبتي". ونادراً ما كان صاحب الشقّة يرضى بضمانتي ومسؤوليّتي فيطلب منّي أن أُعطيه مهلة ساعة حتّى يستفسر أكثر عن المستأجِر الجديد.

ساعةٌ وأنتَ تصارع الوقت. ينتظر النازح فسحةً جديدةً تأويه. لا يحمل سوى أوراقه الثبوتية وربما بعض المال. يجلس مع عائلته داخل سيارة أجرة على ناصية أحد شوارع المدينة ينتظر نتيجة "الكعب الداير" الذي يقوم به صاحب العمارة.

البيوت هي أغلى ما نملك. فنحن نمضي أعمارنا في بنائها وتأثيثها، وتقوم إسرائيل بهدمها بلمح البصر. تعرف إسرائيل الأثر النفسي الذي يتسبّب به دمار المنازل. لهذا السبب من حقّ أصحاب الشقق أن يسألوا عن التاريخ السياسي والنضالي لكلّ طالب مأوى.

ذكّرني ذلك بما تقوم به الشرطة قبل إخلاء سبيل من قام بجريمة. إذ كان وكيل النيابة، في الأفلام العربية، يردّد عبارة: "يُخلى سبيله ما لم يكن مطلوباً على ذمّة قضايا أخرى". يعني ذلك أن يزور المتهم، برفقة جندي "غلبان"، كلّ أقسام الشرطة في المناطق المجاورة، للتأكّد من خلوّ سجّله من أيّ قضية أو تهمة قد يكون متورطاً أو مطلوباً فيها.

تُسمّى هذه العملية: كعب داير. وكانت تُستخدَم قبل انتشار أجهزة الكمبيوتر التي باتت تحفظ بيانات المواطنين كاملة.

وانتظار نتيحة "الكعب الداير" لا يدوم أكثر من ساعة. لأنّ أهل المدينة الواحدة يعرفون بعضهم البعض. ويأتي جواب صاحب الشقّة: "خلّيهم يتفضّلوا، أعطيهم العنوان". 

من أكثر الردود طرافة يوم قال لي أحد أصحاب الشقق وهو يضحك: "إذا الساكن الجديد مع المقاومة يفتح الله، أنا بخاف على بيتي، ولا أكره المقاومة وبادعيلها، بس إذا كان تاجر مخدّرات عادي، خلّيه يتفضل" وضحكنا سوية. نحن شعب سنضحك رغم قهقهات الحرب.

المساهمون