غزة على من تطلق الصواريخ؟

19 مارس 2019
+ الخط -
كان من الأجدى لو نُسبت الصواريخ التي انطلقت نحو تل أبيب إلى فاعلها المعلوم بأل التعريف، وسُميت باسم أبيها الحقيقي، على نحو ما درجت عليه العادة إزاء كل مقذوفٍ ألقاه هذا الفصيل أو ذاك على أرض خلاء في فلسطين المحتلة. لكن، ما العمل إذا تسابق الجميع على التبرؤ من شرف القيام بهذا الفعل الذي يرفع الرأس عالياً، وتنصّل الكل بلا استثناء من تحمّل مسؤولية هذه الجرأة التي تثير في النفوس المكلومة اعتزازاً هائلاً؟ وبالتالي، هل من سبيل، والحالة هذه، سوى رد هذه الصواريخ إلى رحم أمها الغزية الصابرة؟
مع ذلك، يظل السؤال أعلاه مطروحاً بقوة؛ على من أطلقت غزة صواريخها مجهولة النسب مساء الخميس الماضي؟ أي الرسائل التي حملتها؟ ومن هم المخاطبون بها؟ وما الهدف الذي كان مرجوّاً من وراء إطلاقها بلا مقدّمات تبرّر الإقدام على هذه المجازفة؟ وما الذي كان يستدرجه هذا التصعيد من رد فعل إسرائيلي، لا شك في وقعه؟ ولماذا تم توقيتها هكذا في لحظةٍ كانت المداولات جاريةً على قدم وساق لإنجاز تهدئةٍ طال انتظارها؟ هل هناك خلافاتٌ داخليةٌ مكتومةٌ حملت جهة ما إلى المبادرة بهذا الفعل الذي فاجأ غزة أكثر مما فاجأ إسرائيل ذاتها؟
سوف تظل هذه الأسئلة بلا إجاباتٍ شافيةٍ في المدى المنظور، وقد تضيع الردود عليها وسط بحر ساكن من الاتهامات المحرجة، ولن تجدي نفعاً كل التوضيحات اللاحقة، بما في ذلك تحميل المسؤولية لفصيل صغير منشق، وربما لجهةٍ استخباريةٍ معادية، ناهيك بفرضية انطلاق الصواريخ جرّاء خلل فني، أو نتيجة مقامرةٍ شخصيةٍ من جانب وحدة عسكرية غير مسؤولة. غير أن ما سوف تنطق به الوقائع الجارية، والتطورات المتناسلة بعضها من بعض، قد يفكّ شيفرة إطلاق هذه الصواريخ في أسوأ الأوقات وأشدها صعوبةً للممسكين بناصية الأمر في قطاع غزة.
وإذا كانت الأمور تقاس بالنتائج، وهي كذلك في مطلق الأحوال والأوقات، فإن لنا أن نحكم على نتيجة إطلاق هذه الصواريخ المجهولة النسب بأنها كانت خسارة صافية، وأنها كانت بمثابة تعزيز للرواية الإسرائيلية المصادق عليها في الغرب، تلك الرواية الزاعمة أن في غزة جماعات إرهابية تقصف المدنيين بلا تمييز، وأن القطاع المحاصر مجرد منصةٍ لإطلاق الصواريخ، وحدّث بلا حرج عن خدمة هذه العملية العابثة لدعاية اليمين الإسرائيلي المتطرّف، وعلى رأسه بنيامين نتنياهو، لحصد مزيد من الأصوات في حملته الانتخابية.
إلا أن ما يعنينا من وراء هذه الإطلاقات الصاروخية المريبة أكثر أهمية من كل ما حصدته إسرائيل من مكاسب، ونعني بذلك التداعيات الغزّية الناجمة عن فعل متهور، ألقى بظلاله السوداء على وضعٍ كان مأزوماً فازداد تأزماً، بما في ذلك تقديم اعتبارات الاحتفاظ بالسلطة المحاصرة على مبدئية الفعل المقاوم مرة أخرى، وذلك على نحو ما لهجت به البيانات التوضيحية الاعتذارية المتنصلة من قصف صاروخي لتل أبيب، لم يجرؤ عليه سوى جيش صدام حسين، وفوق ذلك وصف هذه الإطلاقات بأنها عمل مشبوه ومارق وخارج عن الإجماع الوطني، والتوعد بمحاسبة فاعليه لاحقاً.
ولعل رد الفعل الإسرائيلي الانتقامي الواسع، وغير المؤلم (مائة غارة جوية من دون ضحايا)، وقبول نتنياهو الاعتذار عن الخطأ الصاروخي، كانا بمثابة ترضية لإسرائيل بخفض سقف المقاومة من جانب واحد، وتجسيدٍ لهدفها بكي الوعي الفلسطيني، وتعزيز لاستراتيجيتها القائمة على قاعدة "هدوء مقابل هدوء"، وسعيها الدؤوب إلى ردع غزة، وابتذال مفهوم المقاومة المتعلقة بالسلطة مهما كان الثمن، ومن ثمّ إدخال القطاع في أزمة ذاتية شاملة، كان أول نذرها وقف مسيرات العودة، ولو مؤقتاً، وانفجار الوضع الداخلي، ولو على خلفيةٍ مطلبية.
إزاء ذلك كله، يمكن القول، بتعميم مقصود لذاته، إن غزة التي تركب ظهر حصانين متعاكسي مضمار السباق، قد أطلقت الصواريخ على نفسها، وليس على تل أبيب، وأن هذه الصواريخ أصبحت عبئاً على غزة، كأنها قنبلة نووية لدى دولة آسيوية فقيرة، ومن ثمّ الدخول في متاهة جديدة.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي