أياً يكن طول الفترة التي يمكن للمبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث، البقاء في مهمته "قائداً" لجهود الحل السياسي في البلاد، فقد بات واضحاً أن العد التنازلي للنهاية قد بدأ، عقب إعلان الحكومة اليمنية منحه ما وصفته بـ"الفرصة الأخيرة"، للعدول عن جملة من الممارسات والسياسات التي اتبعها طوال الأشهر الماضية، في وقت يقف فيه دور الأمم المتحدة في اليمن أمام سيناريوهات محدودة، بين الإبقاء على غريفيث أو الاستعداد لتعيين خلف له.
وعلى الرغم من أن رد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، على رسالة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، جاء بتأكيد ثقة الأول "المطلقة" بمبعوثه الخاص مارتن غريفيث، وعلى استمرار الأخير في مهامّه، إلا أن التصريح برأي مصادر وثيقة الصلة بالحكومة، تحدثت لـ"العربي الجديد"، لا يحمل الضمانات الكافية على أنّ غريفيث سيبقى في كل الأحوال قائداً لجهود المنظمة الدولية لاستعادة العملية السياسية في البلاد، بقدر ما يمثل موقفاً دبلوماسياً يحفظ ماء الوجه للمبعوث، بعد جملة الاتهامات التي واجهته، سواء من الجانب الحكومي الرسمي أو من حملات الرأي العام على مواقع التواصل الاجتماعي في الأسابيع الأخيرة.
وكان الرئيس اليمني، وجّه الأربعاء الماضي رسالة إلى غوتيريس جاءت في خمس صفحات، عدّد فيها ما وصفها بـ"التجاوزات" التي ارتكبها غريفيث في الشهور الأخيرة، وأولها الإصرار على التعامل مع جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) كـ"حكومة أمر واقع ومساواتها بالحكومة الشرعية المنتخبة". وقال إنه يحرص باستمرار على لقاء منتحلي صفات حكومية لا مشروعية لها خارج إطار القرار الدولي 2216، الذي حدد طرفين أساسيين في اليمن، هما الحكومة الشرعية ومن وصفها بـ"المليشيات الحوثية". كما اتهم المبعوث الأممي بالسعي لتوسيع أطراف الحوار، معتبراً أنه يعمل على تجاوزه، من خلال تبنيه لإطار سياسي للمفاوضات خارج سياق القرارات الدولية وخارج إطار ما توصلت إليه جولات المشاورات السابقة.
ومن أبرز الاتهامات الحكومية الرسمية للمبعوث الدولي، التوقف عن التعاطي مع اتفاقيات تبادل الأسرى والمعتقلين، وفي ما يتعلق بتعز، وصولاً إلى ملفات الخلاف المرتبطة بتنفيذ اتفاق استوكهولم بشأن الحديدة، إذ اعتبر هادي أن إشادة غريفيث بزعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، في جلسة مجلس الأمن الدولي في 15 مايو/ أيار الحالي، مخالفة. وتحدث عن استئجار فريق المبعوث في الحديدة باخرة لإرضاء الحوثيين، وأنه تجاهل الآلية المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن 2451، ووافق على "انتشار أحادي الجانب" من دون أي طريقة للرقابة والتحقق. والأهم من ذلك، فقد أشار إلى اتفاق بين غريفيث والحوثيين يقضي بتسليم الجماعة موانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى للأمم المتحدة، دون إشراف الحكومة أو معرفتها، قبل أن يخلص إلى أن الحكومة اليمنية ستعطي "فرصة أخيرة ونهائية للمبعوث مارتن غريفيث، لتأكيد التزامه الحرفي بالمرجعيات الثلاث في كل جهوده وتطبيق اتفاق استوكهولم، وفي إطار المفاهيم المتعارف عليها للقانون الدولي والقانون اليمني في ما يتعلق بالتعامل مع السلطات الشرعية المنتخبة، ورفض التعاطي مع أي مفاهيم تكرّس التعامل مع التيارات الانقلابية وحركات التمرد المسلح كسلطات أمر واقع".
وجاءت رسالة هادي بعد يوم من توجيه أصدرته رئاسة البرلمان اليمني إلى الحكومة بوقف التعاطي مع غريفيث، وبالترافق مع حملة دشنها مدونون ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، وهيئات مقربة من الحكومة أو معارضة للحوثيين، تضمنت ما وصفته الأمم المتحدة بـ"الخطاب المتشدد" ضد غريفيث ودوره في اليمن. علماً أن الانتقادات امتدت لتطاول بريطانيا، بوصفها أبرز داعمي المبعوث الأممي والمقرر بشأن اليمن في مجلس الأمن، وكانت الدولة الوحيدة تقريباً بين الدول الخمس الدائمة العضوية في المجلس، التي تبدي موقفاً مؤيداً للخطوات الأخيرة التي رعتها الأمم المتحدة في الحديدة.
وتعدّ أزمة الخلافات الحكومية مع غريفيث قديمة جديدة، في ظل الرضى الذي يبديه الحوثيون عن دور الأخير، خلفاً لسلفه الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد، الذي اتخذ الحوثيون موقفاً معارضاً منه، يلتقي في بعض ملامحه مع الموقف الذي يتبناه الجانب الحكومي حالياً ضد غريفيث. وكانت الحديدة، بعد شهور طويلة من الأخذ والرد في تفاصيل ما يقتضيه اتفاق السويد، بمثابة "القشة التي قصمت ظهر البعير"، وذلك حين أعلن فريق الأمم المتحدة، المعني بالرقابة على الاتفاق في المدينة بقيادة الجنرال الدنماركي مايكل لوليسغارد في 10 مايو الحالي، ترحيب المنظمة الدولية بـ"إعادة انتشار" أحادي الجانب من قبل الحوثيين وفقاً للطريقة التي تفسر بها الجماعة الاتفاق.
وفي ظل مجمل التطورات أو ما وصفته الحكومة اليمنية بـ"الفرصة الأخيرة" لغريفيث، تبرز العديد من السيناريوهات المحتملة لمصيره في المنصب خلال الأشهر المقبلة. أول هذه السيناريوهات، هو استمرار مارتن غريفيث في منصبه، مع بذل بعض الجهود التي تساعد على تهدئة وتيرة الأزمة مع الجانب الحكومي، أو الاستعانة بضغوط دولية إضافية تجبر الأخير على القبول ببقاء غريفيث والموافقة على التوجه الذي يتبناه. ومن شأن ذلك، أن يمثل امتداداً للمرحلة الماضية، التي قبلت فيها الحكومة العديد من الخيارات نتيجة للضغط الدولي، وأولها الذهاب إلى توقيع اتفاق الحديدة أواخر العام الماضي، بعدما اقتربت القوات الحكومية المدعومة من التحالف من وسط المدينة. وغير بعيد عن سيناريو البقاء في المنصب، وبصرف النظر عن إمكانية مراجعة الحكومة موقفها في كيفية التعاطي مع غريفيث، فإن مهمته قد تمتد لشهور قادمة، على نحو تدخل معه الجهود السياسية الرامية للتوصل إلى حل سلمي مرحلة جديدة من "الجمود"، كما حصل مع ولد الشيخ أحمد، حين أعلن الحوثيون مطلع العام 2017 رفضهم استمراره في منصبه، لكنه بقي حتى مطلع العام الذي تلاه، من دون أن يتمكن من تحقيق أي تفاهمات جديدة بشن الأزمة في البلاد.
إلى جانب ذلك، يبرز السيناريو الثالث، ويتمثل باحتمال أن يقدم غريفيث استقالته في الفترة المقبلة، الأمر الذي بدأت تنتشر شائعات حوله، إذ تحدثت أنباء عن نية المبعوث الأممي الاستقالة وأخرى أشارت إلى دخوله في "إجازة" خلال الفترة المقبلة. وعلى الرغم من نفي مصادر قريبة من مكتب الأمم المتحدة في اليمن، ما يتردد في هذا الشأن، إلا أنه يظل احتمالاً وارداً، في ظل ما واجهه من انتقادات غير مسبوقة، والعقبات التي تضيفها هذه المواقف، أمام أي جهود مستقبلية يقودها غريفيث لعقد جولة مشاورات جديدة.