عَقْد الدبلوماسية الدفاعية في مواجهة التمدد الإيراني

24 يناير 2015
اختلّ التوازن بين السياسة الهجومية الإيرانية والدفاعية للسعودية(فرانس برس)
+ الخط -
ليس من باب المبالغة اعتبار أن العشرية التي حكم خلالها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، السعودية، كانت عشرية التحديات والانهيارات الكبرى، خصوصاً في المنطقة العربية وجوارها، والعالم الإسلامي عموماً، القريب من السعودية والبعيد نسبياً. لكن نظراً لمركزية الدور السعودي ونفوذ الرياض في الإقليم، يصبح البعيد قريباً بالضرورة حتى يكاد يكون شأناً سعودياً داخلياً. عَقْد بدأ في العام 2005 ولم ينتهِ حتى اليوم، ليكون السؤال: أيهما سيكون أصعب؟ عَقْد عبد الله أو عقد الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز؟

من العراق الأقرب إلى حدود وقلب السعودية، طبعت مرحلة حكم الملك عبد الله عبارته الشهيرة التي وصف فيها الوجود الأميركي بـ "الاحتلال"، وصار التعاطي مع البلد المجاور العملاق، في عهد عبد الله، كدولة محتلة من طرفَين: الولايات المتحدة وإيران. من هذا المنطلق، سجّلت السنوات العشر التي حكم فيها الراحل، رفضه المتكرر استقبال نوري المالكي على اعتباره تجسيداً لنفوذ إيران المتصاعد واللامحدود، انطلاقاً من العراق. ويرى كثيرون أنّ المشكلة تكمن في تزامُن تولي محمود أحمدي نجاد الحكم في إيران، مع تولي الملك عبد الله عرش المملكة. الأول بسياسة هجومية تحت شعار "تصدير الثورة"، والثاني بسياسة أقل تدخّلية تحت عنوان الاستقرار الداخلي أولاً، والتقليل من التدخل الخارجي لجلب المزيد من الهدوء الداخلي.

من هنا، اختلّ التوازن بين السياسة الهجومية الإيرانية من جهة، وتلك الدفاعية للسعودية في العقد الماضي، من جهة ثانية، وهو ما عنى، من بين ما عناه، تقدماً كبيراً للنفوذ الإيراني في كل من العراق ولبنان وسورية واليمن وبشكل فجّ مباشر، في مقابل تراجع المواقع المحسوبة على السعودية في هذه المناطق وغيرها.

واقع لم يكن ممكناً فصله عن الظاهرة الملازمة والمكملة للسياسة الدفاعية السعودية والهجومية الإيرانية، أي انتعاش التنظيمات الخارجة من رحم "القاعدة"، حتى بات العقل السعودي الحاكم واقعاً بين فكَّي أزمة مستعصية: التقدم الإيراني مذهبياً وسياسياً في مواقع حساسة يغذّي التيارات الجهادية السنية في كل مكان، وهي تيارات تهدد السعودية أيضاً. أما المواجهة السعودية للمد الإيراني، فبدت شبه مستحيلة من خلال أطر وتنظيمات "معتدلة" باتت ضعيفة كل الضعف لأسباب موضوعية وذاتية عديدة، وهو ما ظهر في لبنان والعراق واليمن وسورية بكل وضوح. في موازاة كل ذلك، كان من شأن أي دعم سعودي لطرف سنّي بشعارات "الدفاع عن أهل السنة في مواجهة المد الإيراني"، أن يصبّ في خانة التنظيمات الجهادية نفسها.

معضلة ساهمت بقوة في تربيط الدبلوماسية السعودية في سورية ولبنان واليمن والعراق، خصوصاً في ظلّ الفوبيا السعودية إزاء تنظيمات مصنّفة في خانة "الاعتدال"، كتلك المحسوبة على التنظيم العالمي لـ "الإخوان المسلمين"، ووضع الرياض هذه التنظيمات في خانة العداء والإرهاب، تماماً مثل تصنيفها تنظيمات "داعش" وأخواته. ولم يفعل "الربيع العربي" بالنسبة للسعودية، سوى تعزيز هذا العداء للتنظيمات المحسوبة على "الإخوان"، فباتت الساحة السنية من دون ممثل قوي "معتدل" يقف في وجه "التمدد الإيراني" ويكون مدعوماً من الرياض، ما أفسح المجال أمام ازدهار التنظيمات الجهادية، خصوصاً في ظل الخلافات العربية البينية، التي كانت الرياض، في عهد الراحل عبد الله، في القلب منها، كالخلاف التركي ــ السعودي على سبيل المثال، فضلاً عن الأزمة مع مصر ــ محمد مرسي، والأزمة الخليجية التي لم تطوِها سوى مبادرة الملك الراحل، كل ذلك في ظل "شرطي أميركي ناعم" اسمه باراك أوباما، ساهمت سياسات إدارته، عن علم أو من دونه، في تحقيق إيران أكبر "الإنجازات" التي تُحسب لها في خانة التوسع وتصدير الثورة، وتأليف المدى الحيوي الإيراني وفق ما تسميه الأدبيات الإيرانية بـ "الشرق الأوسط الإسلامي".

وفي تقييم "عشرية عبد الله"، يحمّل كثيرون، الراحل عبد الله، مسؤولية كبيرة في ما حصل ويحصل، وآخر تجلياته في اليمن، الحديقة الخلفية للسعودية تاريخياً، التي باتت، في عهده، بيد الحلفاء الوثيقين لطهران، أي الحوثيون. ويتوقف البعض عند مفارقة تاريخية، تجلّت بسقوط صنعاء ورئيسها عبد ربه منصور هادي واكتمال الانقلاب الحوثي في اليمن، في اليوم نفسه لوفاة الملك السعودي، أو قبيل سويعات من إعلان وفاته، مع ما يرمز ذلك إلى مصادفة تاريخية لها من الجذور ما يربط عِشرية حكم الرجل، مع التراجع السعودي التاريخي في السياسة الخارجية. تراجع لم تكن الساحة السورية، سوى تعبير صارخ عنه، إذ أمكن لكثيرين القول، منذ اندلاع الثورة السورية في 2011، إنّ الرياض اتخذت قراراً حاسماً في التخلص من حكم الرئيس بشار الأسد، لكن من دون أن تضع استراتيجية لكيفية إسقاطه أو المساهمة في إسقاطه أو لتصور البديل لآل الأسد، ليكون القرار السعودي إزاء دمشق، على طريقة "القرارات العشائرية"، حيث تكون للاعتبارات الشخصية المكانة الأكبر بدل وضع الخطط والاستراتيجيات، وعدم الاكتفاء بالعمل وفق ردود الفعل.

وهذا ما يفتح الباب على معطى آخر في الحديث عن السعودية في عهد الراحل عبد الله، وهو أن تلك السنوات العشر، يراها كثيرون أكثر فترة غاب فيها العقل المخطّط في المملكة تجاه السياسة الخارجية خصوصاً، ولذلك اعتبارات كثيرة، أبرزها الترهّل الذي تترجمه السن المتقدمة جداً لكل رموز العائلة المالكة (وما وزير الخارجية سعود الفيصل سوى رمز لتلك الصورة)، والصراعات داخل العائلة المالكة تجاه الملفات الخارجية الحسّاسة وكيفية التعاطي معها، في ظل ما يُحكى عن اختلاف كبير بين أبناء عبد الله والأمير بندر مثلاً تجاه سورية.

كل شيء جعل من عشرية حكم عبد الله بن عبد العزيز، عَقد التحديات والانهيارات الكبرى، خصوصاً في الدول المحيطة بالسعودية، في حين كانت المملكة غير جاهزة ذاتياً لمواجهة الزلازل إلا بردود الفعل البطيئة والتي غالباً ما كانت تأتي بعدما يكون فات أوانها، وجاء الحدث اليمني كخير مثال.

المساهمون