عيّنات ليست عشوائية
ثمّة نماذج مؤسفة، وعيّنات ليست عشوائية من البشر، تخالف، وبشكل صريح، مقولة الشاعر الشهيرة، والتي ذاع صيتها عقوداً طويلة، وذهبت مثلاً، لشدة بلاغتها، وقوة فكرتها، مبدأ أخلاقياً أساسياً، "لا تنهى عن خلقٍ وتأتي مثله، عار عليك إذا فعلت عظيم"، ذلك أنها انتهازية من حيث التكوين النفسي ومنافقة بالفطرة، تنتهج هذه المخالفة الأخلاقية، كأسلوب حياة قائم على مبدأ التلفيق، لكيلا نقول: على النصب والاحتيال، إدراكاً منها لشح رصيدها الشخصي من الأصالة والنبل.
ويسعى هؤلاء الأشخاص، المعوزين بالمعنى الأخلاقي والإنساني للكلمة، ممن يتراقصون على حبال المتناقضات بخفة واحتراف بهلوانات السيرك، إلى ترويج أنفسهم، مثل مندوبي المبيعات النشطاء، ويتهافتون، لكن من تحت الطاولة، على تحقيق المكتسبات من مناصب وشهرة وإثراء، ويتصنعون على المنابر الزهد وعدم الاكتراث، مدعين تبني شعار "يا دنيا غيري غيري"، وهو منهم براء! ليس ذلك فحسب، بل إنهم يبالغون في توجيه التهم للغير، مثل المرتشي الذي يواصل الحديث عن فضائل الأمانة، ويصر على أن الناس كلهم مرتشون، إذا ما أتيحت لهم الفرصة، طبعاً ما عداه فهو عراب العفة ونظافة اليد وراحة الضمير.
ومع ذلك، إن أمثال هذا المرتشي من صغار اللصوص لا يشكلون خطراً كبيراً على مجتمعهم، بسبب سهولة كشف أوراقهم. الخطورة الفعلية تكمن في بعض نجوم الفكر والفن والشعر والسياسية، وحققوا حضوراً إعلامياً معقولاً، وانتشاراً يؤهلهم لاعتلاء المنابر والتنظير حول مختلف القضايا، قادة رأي مؤثرين على مجتمعاتهم.
تتمتع هذه الفئة بالذات بقدرة عجيبة غريبة على الادعاء، تحديداً ادعاء ما ليس فيها من خصال، وما يفتقرون إليه من مزايا وفضائل، وهم، في واقع الأمر، مجرد ممثلين يؤدون أدواراً معينة باتقان كبير، وفي حين يعود الممثل المحترف حال إنتهاء العمل الدرامي إلى طبيعته وسابق عهده يظل هؤلاء على حالهم: لا عهد لهم ولا طبيعة بينة!، بل يغدو الادعاء والتظاهر طبيعة ثانية فيهم، ويكفي أن يوضع الواحد منهم في موقف يتضمن مواجهة ما، حتى يتكشف عن نموذج رث جبان منافق يستدعي الشفقة. هؤلاء يعمدون من باب الدفاع عن النفس ومدارة العيوب الجسيمة إلى استراتيجية الدفاع من خلال الهجوم، فيظلون في حالة من النقد اللاذع لكل شيء والقصف العشوائي على الجميع.
وفي الوقت نفسه، يسوّقون أنفسهم نماذج إيجابيه نقيضة، لا تشوبها شائبة، وهذه حيلة نفسية كلاسيكية مألوفة جداً يلجأ إليها أشخاص مفتونون بذواتهم، المتضخمة إلى حد جنون العظمة، يميلون إلى الاستعلاء، يتوهمون التفوق والقدرة على التصرف بحكمة واتزان وثقة، وهم، في واقع الأمر، يعانون من نقص حاد في الثقة بالذات، وهم، في العادة، أشخاص متكلفون غير قادرين على التصرف، بشكل عفوي، لأنهم مسكونون بهاجس صورتهم لدى الآخرين.
من البديهي أن تنطلي خديعتهم هذه على بعض الناس بعض الوقت، فيتوهمون تحقيق النجاح، وبلوغ الهدف، إثر نشر كتابٍ طبع أكثر من مرة، أو إقامة أمسية شعرية مدوية، حضرها مضللون بوهج الاسم الملفق، غير أن الأيام، وما تحمله، في جعبتها، من عوامل الحتّ والتعرية، كفيلة بتجريدهم من إكسسوارات التنكّر، وحين يتسع البون بين ما يقولون وما لا يفعلون، ستأتي لحظة مفصلية حاسمة، لن يفلحوا في الهروب، وقتها، من المواجهة، وإذا افترضنا جدلاً أنهم نجوا من مواجهة الدنيا بأسرها، يبقى السؤال التالي قائماً وملحاً: هل سيمتلكون الجرأة يوماً للتحديق في وجه المرآة من دون أن يعتريهم الخزي؟