عيون رام الله

07 مايو 2015

ميدان المنارة وسط رام الله (19أبريل/2013/Getty)

+ الخط -

ما دمت تعيش في رام الله، لا تقدر على حظرها، لا تقدر على عمل بلوك لها. مدينة من سخرية وحب وتعذيب، من حيث لا تدري تضيف رام الله نفسها إلى فيسبوك يومك فيها، وحتى لو كنت غير راغب في ذلك، سوف تبدأ أنت، من حيث لا تدري أيضاً، بعمل لايكات لكل حركة او ابتسامة أو صوت لرام الله. تعشق رام الله من يعلق تحت نصوصها، شخوصها أو أشجارها، عماراتها. تموت رام الله غيرة من المدن الأخرى، لو ذكرت، مثلاً، اسم أريحا أمامها يجن جنونها، وقد تحذفك من حصتك فيها. وبالتأكيد، سوف تغلق "فيسبوك" وجودك فيها فترة مؤقتة عقاباً مخففاً، وحين تفعل ذلك، سوف ترتبك خطواتك فيها، وربما تتوه عن مكان عملك، وسوف تضطرب لغتك، وأنت تتحدث مع البقال. لا شيء يستطيع ترويض إيقاع رام الله، لا أحد بإمكانه التملص من فضولها. رام الله مدينة فضولية إلى أبعد حد، هي لا تكتفي بأن تعرف مكان عملك، تريد أن تعرف متى ولدت وأي الكتب تفضل، وما هو موقفك من الحرب في اليمن، ولماذا لم تحلق شعرك منذ أشهر، ولماذا تركتك حبيبتك صاحبة الوجه المنمش، ومن هو هذا الصاحب الذي يزورك باستمرار، ولماذا تواظب على ارتداء القمصان السوداء طوال العام.

تقتلني رام الله بضيقها، تخنقني بشوارعها القليلة والمحددة، والمطروقة والمحروثة بآلاف الخطوات نفسها، الرجال والنساء والاطفال والشيوخ هم هم، يمرون عني كل يوم، وأمر عنهم، لا يصدر عنا سوى تنهيدة مكررة: إيه هو أنت مرة أخرى. أسمعها منهم، وأردد أنا الآخر: أف أنتم مرة أخرى، لا مجهول في رام الله، لا غموض، مدينة مكشوفة ومكشوطة من رأسها حتى أخمص قدميها، لا أحد يختبىء في أي مكان، لا أحد ينجو من عيون رام الله، كل شيء مسجل في أرشيفها، تفاجئك رام الله بأنها تحفظ حتى تاريخ أول خيبة عاطفية وتاريخ أول رغيف ساندويش فلافل من أبو خليل.

إلى من سنتوجه بعمل (ريبورت) لإغلاق فيسبوك رام الله من حياتنا؟ مرهقة هذه المدينة، تطاردنا حتى عقر فراشنا، ولا تقبل بأقل من تفاصيل الرسومات على شراشفنا، لكنها شهية هذه الملعونة، مثل نجاح ساحق في امتحان لم ينجح فيه أحد. في عمان، تستطيع، أنت الباحث عن عزلتك النظيفة، أن تجلس في مطعم في الدوار الثالث، ولن تفكر مرة باحتمال أن يداهمك شخصان يعرفانك، وإن حدث فهي مصادفة سخيفة. في القاهرة، في وسعك أن تسير في السيدة زينب، من دون أن تقلق من شخص يعرفك جداً، ويواجهك وجهاً لوجه في الشارع؟ دالقاً عليك كما هائلاً من المجاملات والفضول الدبق والأسئلة: يا رجل شو بتعمل هون؟ طب أي ساعة مروح؟ وبأي فندق مقيم؟ ومين شفت هون؟

الباحث عن عزلته وصمته النظيف لن يجد غير التزام بيته، والعيش مع كتبه وصوته وموسيقاه. في رام الله، هذه الأيام، ثمّة أمسيات شبه يوميه تحدث في أكثر من مكان، هذا جيد لمن يبحث عمن يقتل وقته، ولمن يعشق الشعر إلى حد أن يسمعه كل يوم. وهذا جيد لإثراء الحياة الثقافية، لكن الغريب أن الأشخاص الذين يحضرون الأمسيات هم أنفسهم كل مرة، وإن ذهبت، مرة، إلى هناك سوف تشعر بالملل من الوجوه نفسها، والانفعالات نفسها، والطريقة نفسها في التقاط الصور مع الشاعر. الرأس مائل، والابتسامة واسعة والكتاب الذي وقعه الكاتب في اليد. الكتاب الذي لن يقرأ بالتأكيد، سيرمى في مكان ما، وهؤلاء هم لا يميزون بين شاعر وآخر، هم يذهبون، بشكل تلقائي، إلى أية أمسية، وهذا مضحك وطريف.

مرعبة رام الله، جبارة، مجنونة، صغيرة، واضحة، وقحة، نوافذها (تاغات) وضحكات مقاهيها لايكات جاهزة لكل عابر طريق، وإن حدث، وهذا يحدث باستمرار، أن عملت رام الله لروحك (شير) على صفحتها، فأنت مقبوض عليك فيها، ومنهوبة طاقتك لصالحها، ومربوط بمصيرها إلى الأبد.

رام الله غير قابلة (للبلوك) أو الحظر، غادرها فقط تحظرها، وتلغيها من حياتك. ولكن، من قال إن مغادرتها سهلة وعادية، وهل يغادر الإنسان وجهه بسهولة؟

4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.