عولمة المصطلحات السياسية
وفي أجواء ملبدة بالغيوم، وأصوات الرصاص المتفجر المنبعث من فوهات البنادق، وقذائف المدافع التي نهضت من مهاجعها صوب أشلاء الأطفال والشباب العزل، وغربان السماء التي تنعق فوق رؤوس المتظاهرين، تدور حرب المصطلحات السياسية والتلاعب بالعبارات والألفاظ وهندسة السياقات؛ بغية تحميلها إيحاءات ودلالات مغلوطة وتمرير أجندة مشبوهة أو على أقل تقدير التخفيف من وقع الجريمة على المستوى الإقليمي والدولي، ومحاولة خلق علاقات وارتباطات متناقضة ومختلقة بين السياقات السياسية والألفاظ المستخدمة. وتقف خلف هذا التلاعب الدولي حكومات ومؤسسات ودور فكر، تعمل على نحت هذه المصطلحات وعولمتها وإقحامها بقوة في السياق اللغوي والمفاهيمي للسياسيين والدبلوماسيين وصناع القرار في المسرح الدولي.
وسنشير هنا إلى أهم وأخطر هذه المصطلحات التي دأبت الدبلوماسية الغربية على ترديدها وانساق خلفها الكثير من القادة والسياسيين العرب حتى وصل هذا الاختراق اللغوي إلى حظيرة الساسة الفلسطينيين وهنا مكمن الخطورة في استنزاف الحق الفلسطيني بدافع الجهل أو عدم الدراية، كما أننا نلاحظ في الآونة الأخيرة دخول هذا المصطلح المشبوه الحظيرة الإعلامية الغربية، ونسمعه على لسان المذيعين والمراسلين الصحافيين في قنوات: (CNN – BBS – CBS – Fox News)، وغيرها من الفضائيات الغربية والوكالات الإخبارية على اختلاف أنواعها.
ومن أخبث هذه المصطلحات السياسية المراد عولمتها مصطلح: "الاستخدام المفرط للقوة" الذي أصبح ثقافة سياسية ذائعة على ألسنة السياسيين الدوليين لتلافي الحرج والشعور بالتقصير واهتزاز الضمير جراء الجرائم المروعة التي ترتكبها إسرائيل. وتنطلي على هذا المصطلح محاولة الغرب وضع الإرهاب الصهيوني الممنهج بموازاة النضال المشروع لحركات المقاومة الفلسطينية مستغلة حالة الرفض الدولي لحركة "حماس" وبعض حركات المقاومة الفلسطينية، كما أن هذا التلاعب المتعمد يعطي إسرائيل هامشاً واسعاً من المناورة وممارسة القتل تحت غطاء: "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وعن حدودها". وأمام هذا التوصيف المفتعل والعبارات السياسية الملتوية مارست إسرائيل عشرات جرائم الإبادة الجماعية في السنوات الأخيرة، وأمعنت في تضييق حلقات الحصار، ووضعت جميع فئات المجتمع الفلسطيني في دائرة الاستهداف المباشر.
ونلاحظ أيضاً أن السياسة الغربية تحاول دائماً التضخيم من وقع القذائف التي تطلق من غزة، وتخرج المظاهرات الدائرة على الحدود من سياقها السلمي؛ لتشويه النضال الفلسطيني وإعفاء إسرائيل من مسؤولياتها القانونية والسياسية عن الدماء التي تسيل من دون وازع ولا رادع.
إن مصطلح "الاستخدام المفرط للقوة" يشي بأن المواجهة الدائرة في القطاع وفلسطين عموماً هي اشتباكات مسلحة بين دولتين متماثلتين في القدرة والقوة والسيادة والاستقلال الوطني وليست حرب إبادة بين محتل مستعمر وشعب يريد انتزاع حريته وتحرير مقدساته والعودة إلى أرض الآباء والأجداد.
ومن المؤسف أن تزخر الصحف الغربية بمئات المقالات وتقارير الرأي وأوراق الموقف التي تمعن في توظيف هذا المصطلح؛ لتمريره على المواطن الغربي، وتجنيد الدعم والمناصرة لصالح الكيان، وخلق رأي عام رافض للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
وإذ كنا ننتقد الصحف الغربية على هذا التوجيه المتعمد والتلاعب في مصائر الشعوب بالتضليل وعولمة المصطلحات السياسية؛ لخدمة الأجندة الصهيونية، فإن الكثير من صحفنا القومية والوطنية شرعت هي الأخرى عن جهل وسوء تقدير في استخدام المصطلح ذاته، وترديده في مقالاتها السياسية ومقابلاتها الإعلامية مع الكتاب والسياسيين العرب.
وحتى لا ننتقل في هذا المقال من التوجيه والتنوير السياسي إلى جلد الذات وتوزيع الاتهامات جزافاً، فمن الواجب علينا التصدي لهذا المصطلح السياسي الخبيث بكل الوسائل الممكنة، والحيلولة دون عولمته، والتفكير في الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي ترددها ماكينات السياسة والدعاية الغربية التي لا تقل خطورة عن مصلح "الاستخدام المفرط للقوة".
وحتى نمضي في الاتجاه الصحيح، ينبغي على السلطة الفلسطينية بوصفها المتضرر الأول من عولمة المصطلحات السياسية والتلاعب بالألفاظ، القيام بدورها الوطني والسياسي والقانوني، والمسارعة إلى عقد مؤتمر عاجل يتناول هذه القضية الشائكة؛ لحصر المصطلحات السياسية المضللة ووضع الآليات والتوصيات المناسبة لمعالجتها والتصدي لها.