الطفل عبد الرحمن نوفل: لا تبتروا ساقي

30 ابريل 2018
+ الخط -
ذهب الطفل "عبد الرحمن نوفل" بصحبة أسرته وإخوته وأطفال الحي إلى مخيم العودة شرقي البريج مطالبا بحقه في العودة إلى أرضه التي هُجّر منها آباؤه وأجداده عام 1948 مصطحبا معه طائرته الورقية التي أمضى ثلاثة أيام متواصلة في إعدادها وتجهيزها لإحياء أسبوع الشهداء والأسرى الذي أعلنت عنه الهيئة العليا لمسيرة العودة الكبرى.

وبينما كان عبد الرحمن يلهو ويلعب في مخيم العودة، ويطلق طائرته الورقية إلى عنان السماء مزينة بصورة جاره الأسير الذي أمضى في سجون الاحتلال أكثر من ثلاثة عقود، عاجلته رصاصة قناص غادر أرسلها بدقة إلى ساقه فهشمه حتى أصبح لا يربطه ببقية جسده سوى بعض الجلد الرقيق الممزق تسربله الدماء.

اندفع أبناء مخيم العودة، ومعهم الطاقم الطبي والعلاجي لإسعاف الطفل المدمى قبل أن يفارق الحياة من شدة النزف وهول الرصاصة المتفجرة التي اجتاحت ساقه وعاثت بها خرابا ودمارا، وفصلت عظمه في مشهد لم يفعله البرابرة ولا أكلة لحوم البشر في عصور الظلام السوداء.


كان صراخ الطفل ابن الأحد عشر ربيعا مرعبا، تتخلله سكنات ينظر فيها إلى المسعفين ليسألهم: هل ستبترون ساقي وأعيش حياتي بلا ساق لا أستطيع المشي وممارسة الرياضة ولعب كرة القدم في المدرسة؟ صمت الطفل مرة أخرى، والدموع تتدفق من عينه، والدماء تنزف من ساقه المهشمة، ثم أعاد السؤال على الأطباء والمسعفين، ولا أحد يملك الإجابة بعد أن بدا لهم أن ساقه ميؤوس منها وفي طريقها إلى البتر.

وصل الطفل إلى المشفى، ليخضع مباشرة إلى سلسلة من العمليات الجراحية، بإشراف فريق طبي دولي جاء إلى غزة لإجراء بعض العمليات للمصابين جراء الجرائم الصهيونية التي تستهدف المدنيين المشاركين في مسيرة العودة على الحدود، غير أن نتائج العمليات أفضت إلى ضرورة سفر الطفل إلى الخارج لتلقي العلاج، وإجراء بعض العمليات الجراحية التي لا يمكن إجراؤها في غزة؛ حتى لا يتعرض الطفل الصغير إلى بتر ساقه في ربيع العمر، لقلة الإمكانات في القطاع المحاصر، والتهتك الشديد الذي أصاب عظم الساق.

تقدمت الجهات المعنية بطلب عاجل لسلطات الاحتلال للسماح بسفر الطفل إلى الخارج؛ للحيلولة دون بتر ساقه لا سيما أن جنوده المدججين بالأسلحة المحرمة دوليا هم من ارتكب جريمة استهداف الطفل وإصابته بدم بارد، وكالعادة واجه الاحتلال المجرم هذا الطلب الإنساني بالرفض القاطع ليتلذذ ببتر ساق الطفل ويعيش طوال حياته في عاهة تلازمه طوال حياته، وهو الهدف الذي يسعى إليه من استهدافه للمتظاهرين السلميين العزل منذ انطلاقة فعاليات مسيرة العودة.

طافت صورة القتل المتلفز للطفل الواردة من مخيم العودة العالم، ومعها طافت مشاهد الإرهاب الصهيوني أرجاء المعمورة، فمارست الكثير من المؤسسات الدولية ضغوطا على السياسيين الصهاينة، وتدخلت بعض الجهات والهيئات الحقوقية لوقف تعنت الاحتلال والسماح للطفل المهشم بالسفر للعلاج في مستشفيات رام الله، والأمل يحذوا والديه بأن يجد الفريق الطبي في المشفى حلاً لساق فلذة كبدهم، ولا يكون مصيرها البتر، بعد أن استعصت على الأطباء والجراحين في غزة.

حاول الأطباء جاهدين إنقاذ ساق الطفل من البتر بكل الوسائل المتاحة إلا أن الكلمة الأولى والأخيرة كانت للرصاصة الغادرة التي حسمت أمرها مع عبد الرحمن، وسلبت منه ساقه ليعيش الطفل ربيع حياته بساق واحدة.

عبد الرحمن طفل يعشق الرياضة، ويلعب حارسا للمرمى في فريق مدرسته، يحب لعب كرة القدم مع زملائه في المدرسة وأقرانه في أزقة المخيم، تعلم كيف يذود عن قضيته وحلم أجداده كدفاعه المستميت عن مرماه في المنافسات الكروية التي تجري بين جدران المدرسة وخارجها.

كان حلم عبد الرحمن أن يكون لاعب كرة قدم مشهورا يحمل رسالة بلاده ونضال شعبه إلى العالم إلا أن قناصة الاحتلال اغتالوا أحلام الطفل الصغير في مهدها.

لم يكن عبد الرحمن نوفل الطفل الوحيد الذي قضت رصاصات الاحتلال على ساقه، فقد سبقه العشرات من الأطفال العزل الذين استهدفهم الاحتلال برصاصه المتفجر، وهم لا يملكون سوى هتافاتهم السلمية ولافتاتهم الوطنية وصدورهم العارية في محاولة يائسة منه لردع المتظاهرين وإرعابهم وثنيهم عن المشاركة في مخيمات العودة على الحدود التي أصبحت تشكل له هاجسا أمنيا وسياسيا ونفسيا في الداخل والخارج.

كثيرا ما كانت تباهي إسرائيل بتفوقها العسكري والتكنولوجي على محيطها الإقليمي، وامتلاك جيشها أجهزة كشف ورصد تمكنه من تحديد الأهداف وتشخيصها بدقة، فهل كان الطفل الذي يلهو بطائرته الورقية خلف السياج العازل بسبعمائة متر يشكل خطرا على جيش مدجج بشتى أنواع الأسلحة وأكثرها فتكا بالبشر؟ لا غرابة في إمعان الاحتلال في استهدافه للأطفال، فقد سبقت عبد الرحمن عشرات من جرائم القتل للصحافيين والمصورين والمسعفين لا عد لها ولا حصر، كان آخرها جريمة استهداف صحافي يعمل مصورا لإحدى الفضائيات ما زال يرقد في غرفة العناية الفائقة.

ما يقع على عاتق المجتمع الدولي ليس فقط إنهاء معاناة طفل أعزل استهدفه جنود العدو الغادر بالرصاص المتفجر ليعيش حياته بساق واحدة، أو توفير برامج الرعاية والتأهيل للأشخاص الذين أصيبوا بإعاقات وعاهات مستديمة، وإنما إنهاء معاناة شعب بأسره ما زال يرزح تحت نير الحصار والتجويع والإبادة الجماعية منذ أكثر من سبعين عاما.
دلالات
0129593C-65A2-4C3D-AA26-DD2357446546
معاذ محمد الحاج أحمد

كاتب وباحث فلسطيني عضو رابطة الكتاب والأدباء الفلسطينية، له أبحاث في التسويق السياسي، يعمل لدى وزارة التربية والتعليم.