عودة إلى إريبون.. تفكير نقدي عبر المجتمع

06 سبتمبر 2018
جرجس لطفي/ مصر
+ الخط -

تمارس القدرية الاجتماعية سلطتها علينا منذ الولادة. وبلغة أخرى، ترسم مسارنا الحياتي وسقف تطلّعاتنا. إنها تحدّد وعينا ونظرتنا إلى الأشياء. ولهذا، نحتاج إلى تفكير يشحذ قدرتنا على فهم موقعنا داخل المجتمع، ويكشف تماهينا مع معاييره التي لا تخدم سوى النظام القائم.

لا بد أن يمرّ التفكير النقدي عبر المجتمع، ولا بد لكل سوسيولوجيا ولكل فلسفة، كما كتب عالم الاجتماع الفرنسي ديديي إريبون في "العودة إلى رانس" أن تتجاوز وجهة نظر الفاعلين الاجتماعيين والمعنى الذي يقدّمونه إلى أفعالهم، والتي لا تمثّل سوى نوع من الأيديولوجيا التبريرية للوضع القائم.

برأيه، علينا أن ننجز قطيعة إبستمولوجية مع الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا ونعيد بناء مجموع النظام عبر فكرنا، ومعه الميكانيزمات التي تسمح بإعادة إنتاجه، وعبر ذلك إجراء القطيعة مع الطريقة التي تجعل المُسيطَر عليهم يدعمون القوى المسيطرة، مثلاً عبر اختيارهم للإقصاء المدرسي بمحض إرادتهم.

وطبعاً يمكن لهؤلاء المقصيّين ألا يتوقّفوا عند حد إقصاء أنفسهم من المدرسة، بل أن يعمدوا إلى إقصاء أنفسهم من العصر، عبر اختيار طريقة احتجاج أكثر نكوصية، أي الهروب إلى الدين مثلاً، كما يحدث في مجتمعات من بينها المجتمعات العربية.

يوضّح إريبون أن أهمية النظرية وقوّتها لا تكمنان في قدرتها على تسجيل ما يقوله الفاعلون عن أفعالهم، بل في تمكينها الأفراد والجماعات من التفكير في وضعهم بشكل مختلف، وعبر ذلك بتجاوز الجمود الاجتماعي وبتغيير نظام الأشياء.

الحكم الاجتماعي الذي صدر بحقّنا قبل أن نُولَد هو ما يتوجّب أن يكون من هنا فصاعداً موضوعاً لتفكيرنا. علينا أن نعي هذا الحكم، وأن نعي أن حياتنا أُريد لها أن تكون منسجمة معه.

في "العودة إلى رانس" يتحدّث إريبون عن أبناء الطبقة العمّالية التي ينحدر بنفسه منها، والذين كانوا يتردّدون على المدرسة إلى سن الرابعة عشرة ليلتحقوا بعدها بالمصنع، جيلاً بعد جيل، في الوقت الذي كان فيه أبناء الطبقات الحاكمة يمتلكون الحق في "الثقافة".

تلك الثقافة التي كانوا يتخوّفون من وصولها إلى الطبقة العاملة، كما تتخوّف القوى الاستعمارية إلى يومنا هذا من وصول فكر الحرية وتجذّره في المجتمعات المتخلفة.

إريبون ليس من أنصار نظرية المؤامرة الاجتماعية، وهو يعلن رفضه لما كتبه ألتوسير عن "الآلة الأيديولوجية للدولة"، مشيراً إلى النقد الذي وجّهه بورديو إلى ألتوسير في ما يتعلّق بدور شرّير محتمل للدولة في المحافظة على الوضع القائم، لكن بورديو نفسه من سيتساءل في نبرة تُذكّر بألتوسير، كما يرى إريبون، عن "الدور الواقعي لنظام تعليمي يعمل بشكل يقصي من المدرسة، طيلة مرحلة التمدرس، أبناء الطبقات الشعبية".

عودتي المستمرة في هذا المقال إلى إريبون ليست فقط للقول، مثلاً، لمن يفكّر اليوم في فشل النظام التعليمي في البلاد العربية بأن للأمر علاقة بالنظام الاجتماعي القائم الذي يحول دون وصول الطبقات الشعبية إلى المعرفة وقدرتها على الاهتمام بالثقافة، وبلغة أخرى على إنتاج ثقافة عضوية؛ بل أيضاً قناعةً بأن الآلة الأيديولوجية للدولة إن لم تكن واقعاً في الدول الديمقراطية فهي من يسهر على توزيع الأحلام والثروات والحقّ في المعرفة والصعود الاجتماعي في البلاد العربية.

وفي السياق نفسه، لا يتوجّب أن نُغفل شكل المثقف الذي أنتجته وتنتجه هذه الدولة، والذي يشبه كثيراً رايمون آرون الذي لم يكن يريد الاعتراف بوجود شيء اسمه طبقات اجتماعية، ولم يُخفِ إريبون شعوره بالتقزّز منه. نقصد هنا خصوصاً المثقّف التراثي؛ ذلك الذي نصب نفسه منافحاً شرساً عن هوية دينية أو قومية أو إثنية، حتى يحجب عنّا هويتنا الاجتماعية.

القول بالتراث يسرق منّا الماضي أو يحجب عنا الماضي الاجتماعي الذي يتحكّم في الحاضر والمستقبل. معركتي الشخصية كفرد والجمعية كطبقة يتوجّب أن تكون ضد الحكم الاجتماعي الذي يمثّله هذا الماضي، وليس عبر هروب إلى معارك وهمية وفولكلورية، من قبيل التراث والمعاصرة، الهوية والتغريب، الإسلام والعلمانية، تُعوّض الواقع بالوهم وتؤبد عبر ذلك الوضع القائم.

 

المساهمون