عودة أميركا وظروف نشأة التحالف ضد داعش.. قراءة جديدة

02 مارس 2015

معسكر تدريبي للجيش العراقي بإشراف أميركي (2005/أ.ف.ب)

+ الخط -

بعد مرور نحو ستة أشهر على تشكيله، ما زال التحالف الدولي الذي عدّ الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قيامه شرطاً ضرورياً لإعلان "الحرب على تنظيم الدولة"، وتجنب استخدام عبارة "الحرب على الإرهاب" التي طبعت عهد سلفه، حتى لا يبدو الأمر كأنه استئناف لحروب بوش الابن التي لم تتوقف، أصلاً، وإن تغيّرت أدواتها نحو اعتماد أكبر على الطائرات من دون طيار، "درونز"، ما زال يشكل مادة دسمة للبحث والدراسة، وسيبقى، على الأرجح، كذلك لسنوات عديدة، بعد أن قرر أوباما أن هذه الحرب ستطول، حتى تتسلّم الراية إدارة جديدة في واشنطن.

تحالف ضد مَن؟
من النقاط التي سيركز عليها خبراء العلاقات الدولية والعلوم السياسية أن الرئيس الأميركي أنشأ تحالفاً، وأعلن حرباً على تنظيم لديه، على الرغم من كل الأساطير التي تنسج حوله، مصادر قوة محدودة جداً، ويتركز معظمها في العنصر البشري المؤدلج. والمعروف أن الحروب تُعلن وتُخاض عادة ضد دول، وتعد من أفعال السيادة التي تمارسها كيانات قائمة، بالمعنى السياسي والقانوني، في مصفوفة النظام الدولي، كما تحكمها قواعد وقوانين ومعاهدات، مثل تلك الخاصة بمعاملة أسرى الحرب، وحظر استخدام أسلحة محرمة وغيرها. أما التحالفات، فهي، في المبدأ، أداة من أدوات السياسة الأمنية والخارجية، الخاصة أيضاً بالدول، والتي يتم عادة اللجوء إلى تشكيلها، لمواجهة قوى لا تستطيع دولة بمفردها أن تواجهها (Hegemon Power). وكلا الشرطين غير متوفر في تحالف أوباما ضد تنظيم الدولة، فلا التنظيم دولة، بالمعنيين السياسي والقانوني، ولا هو كيان يمتلك من عوامل القوة ما يبرر إنشاء تحالف ضده، ولا يغيّر من الأمر شيئاً تسلّح أوباما بقرار مجلس الأمن رقم 2170 الذي صدر في 15 أغسطس/ آب 2014، ويدعو الى اتخاذ "جميع التدابير التي قد تكون ضرورية وملائمة... من أجل مواجهة....... ارتكاب أعمال إرهابية"، لأن هذا القرار يذكر "تنظيم الدولة" باعتباره تنظيماً عابراً للحدود، وليس دولة، كما أنه لا ينظر إليه باعتبار أن عليه ما على الدول من التزامات.


العودة على مضض

من الأمور الأخرى التي ستثير اهتمام دارسي العلاقات الدولية حقيقة الأسباب التي دعت الرئيس أوباما إلى العودة إلى الخوض مباشرة في أزمات المنطقة، بعد أن ظل يحجم عن ذلك، منذ سحب آخر الجنود الأميركيين من العراق، نهاية عام 2011، على الرغم من كل الضغوط التي تعرّض لها. صحيح أن إدارة أوباما ظلّت تعد "الإرهاب" أكثر التهديدات الأمنية التي تواجهها أميركا خطورة، لكن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والذي أعلن عن نفسه في 10 إبريل/ نيسان 2013، لم يكن يشغلها كثيراً، حتى بعد أن سيطر على الرقة، وحوّلها إلى عاصمة لدولته، طالما أن نطاق عمله ظل محلياً، ويستهدف المجتمعات المحلية، وليس المصالح الأميركية. لكن الأمر تغيّر عندما سقطت الموصل، وبدأ التنظيم يعد لاجتياح أربيل، عاصمة إقليم كردستان، أوثق حلفاء أميركا في المنطقة، عندها فقط أقر أوباما، في مقابلة مع برنامج "60 دقيقة" على قناة "سي.بي.إس" التلفزيونية الأميركية، في أواخر سبتمبر/ أيلول 2014، أن إدارته قلّلت من خطورة تنظيم الدولة، في حين أنها بالغت في تقدير قوة الجيش العراقي في التصدي له. بسقوط الموصل، سقط "مبدأ أوباما"، فتحولت مواجهة تنظيم الدولة إلى مسألة أمن قومي بالنسبة لواشنطن، ومسألة شخصية تهدد إرث رئيس لا إرث له حتى الآن، خصوصاً بعد أن أحرجه تنظيم الدولة أكثر، بإقدامه على ذبح الصحافيَيْن الأميركييْن، وكأنه كان يدفعه دفعاً للتخلي عن تردده، وتلبية دعوته للنزال في أرض الهلال الخصيب.


غيتس... مهندس التقارب مع إيران

جاء الرئيس أوباما إلى الحكم ببرنامج انكفائي، هدفه الرئيس وقف استنزاف القوة الأميركية في الخارج، والتركيز على إعادة بنائها داخلياً. وهذه دورة طبيعية في السياسة الخارجية الأميركية، تعود إلى أيام الحرب الأميركية ـ الإسبانية عام 1898، وتعمل وفق قاعدة (تمدّد ـ إعياء ـ انكفاء ـ إعادة بناء ـ وانطلاق من جديد). الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة حصل بعد الحرب العالمية الثانية، لأن الحرب الباردة انطلقت بعدها مباشرة. كانت فكرة أوباما تقوم، ببساطة، على العودة إلى قاعدة كيسنجر الشهيرة التي جرى إطلاقها تحت اسم "مبدأ نيكسون" عام 1969، وجاءت على خلفية الاستنزاف الأميركي في فيتنام، والضغط الداخلي للانسحاب من جنوب شرق آسيا. يقوم المبدأ المذكور على فكرة الاستعاضة عن التدخل العسكري المباشر، بتهيئة وبناء وكلاء إقليميين، يتم تجهيزهم ودعمهم لحماية المصالح الأميركية حول العالم. في العراق، جاء تطبيق إدارة أوباما المبدأ من بوابة دعم حكومة نوري المالكي، وبناء وتجهيز وتدريب قوات الجيش العراقي، ليصبح قوة محلية قادرة على الإمساك بالأرض، ما يسمح بانسحاب القوات الأميركية، من دون مظاهر هزيمة، كما حصل في فيتنام عام 1975. ومن أجل سد الطريق أمام أي احتمال للعودة إلى التورط المباشر في العراق، كان أوباما المستعجل للخروج، في ظروف الاضطراب واللاـ يقين التي فرضها "الربيع العربي"، مستعداً للتغاضي عن كل سياسات حكومة المالكي، الطائفية والإقصائية من جهة، ومستميتاً، من جهة أخرى، في كسب تعاون إيران لمساعدته في تهيئة الظروف للخروج من العراق. من أجل ذلك، كان أوباما بدأ يطبّق خلاصات تقرير بيكر ـ هاملتون الداعية إلى الانفتاح على طهران، موكلاً تنفيذها إلى وزير الدفاع، روبرت غيتس، وهو المسؤول الوحيد الذي احتفظ به أوباما من إدارة بوش، ليس لإظهار وقوف الحزبين معاً في مواجهة التحديات الخارجية، كما قيل حينها، وإنما للإشراف على تنفيذ توصيات لجنة بيكر ـ هاملتون التي كان غيتس من أهم أعضائها، وهو الذي كتب توصياتها.


جزرة أميركية غيّرت موقف دمشق

في الفترة بين عامي 2009 ومطلع عام 2011، أشرف روبرت غيتس على مفاوضات سرية مع طهران، كانت تهدف إلى تحقيق استقرار نسبي في العراق، يسمح بسحب القوات الأميركية في الموعد الذي حدده أوباما، وهو نهاية 2011. وكان من جملة نتائج الحوار أن أيّدت واشنطن خيار طهران دعم بقاء رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، على الرغم من خسارته انتخابات عام 2010 أمام القائمة العراقية التي كان يقودها إياد علاوي. ومن سخرية الأقدار، أن برزت سورية عقبة رئيسة في سبيل تطبيق الاتفاق الأميركي ـ الإيراني. كانت دمشق تعارض بشدة ولاية ثانية للمالكي، بعد أن اتهمها بالمسؤولية عمّا أصبحت تُعرف بتفجيرات "الأربعاء الدامي"، التي وقعت في 19 أغسطس 2009، واستهدفت وزارتي المالية والخارجية في بغداد، وأدت إلى مقتل وإصابة مئات الأشخاص. وقامت دمشق على الأثر باستدعاء سفيرها من بغداد، في الوقت الذي توجه فيه المالكي إلى مجلس الأمن مطالباً بتشكيل لجنة تحقيق دولية ومحاسبة المتورطين. في هذه المرحلة، بدا جلياً أن مصالح طهران ودمشق بدأت تفترق أكثر في العراق، وكان ملفتاً أن تركيا، وليس طهران، هي مَن تولّى جهود الوساطة بين المالكي والأسد لإنهاء الخلاف، من دون جدوى.

في عام 2010، دخلت دمشق على خط التحالفات في الانتخابات البرلمانية العراقية، بهدف إسقاط المالكي، وكانت واعية بوجود اتصالات أميركية ـ إيرانية، تمهيداً للانسحاب، ومع صدور نتائج الانتخابات التي تقدم فيها علاوي، اتفقت دمشق مع الدوحة وأنقرة على دعمه في مواجهة التوافق الأميركي ـ الإيراني على بقاء المالكي، لكن "جزرة" أميركية ظهرت فجأة غيّرت الموقف السوري، ودفعته، من جديد، إلى الحضن الإيراني، وتمثّلت بوعد قطعته إدارة أوباما بإعادة السفير الأميركي الى دمشق. وكانت النتيجة أن تمكن المالكي من تشكيل حكومة، بعد نحو عشرة أشهر من المراوحة في المكان، وكوفئت دمشق بإرسال روبرت فورد سفيراً إليها أواخر العام 2010.


سقوط مبدأ أوباما
لكن، لم تلبث هذه الترتيبات والسياسات أن تبيّن مدى قصر نظرها، فعادت، في سنوات قليلة، لتطارد أوباما وتقضي على كل "إنجازاته"، إذ عادت "القاعدة" إلى الظهور مجدداً، ولكن بنسخة أكثر قسوة، وأشد شكيمة، كنتيجة للسياسات الطائفية والإقصائية التي اتبعتها حكومة المالكي بحق المجتمع السني العراقي، ولتوجه ضربة قاصمة لكل سياسات أوباما ونظرياته في العراق. فالجيش العراقي، الذي استغرق الأميركيون نحو عقد في بنائه وتجهيزه وتدريبه، ليكون قوة يعتمد عليها في الإمساك بالأرض، انهار في غضون أربع ساعات في الموصل وكل شمال غرب البلاد، وانهار معه مبدأ أوباما القائل بإنشاء وكلاء محليين، بدل التورط المباشر.

زاد هذا الوضع من حدة الضغوط على إدارة أوباما، المتهمة أصلاً بإضعاف هيبة أميركا، بسبب مواقفها المترددة في أزمات الشرق الاوسط وأوكرانيا وشرق آسيا، فلم تجد بدّاً، خصوصاً مع تنامي استياء الرأي العام، بعد إعدام داعش صحافييْن أميركيين بقطع الرأس، من التحرك. لكن التحرك بشكل منفرد كان ليُفهَم أنه موجّه ضد المجتمعات السنية في العراق وسورية، وعموم المنطقة العربية، لأن داعش في النهاية، بعكس القاعدة، جاءت كرد فعل على سياسات إيران وحلفائها في المنطقة، وهي من ثم تقدم نفسها باعتبارها ممثلة للمظلومية السنية. من هنا، برزت الحاجة إلى إنشاء تحالف يضم الدول السنية المهمة في المنطقة، واستبعاد إيران، علناً على الأقل، التي تتلاقى مصالحها مع واشنطن، بخصوص مواجهة داعش أكثر من بعض الدول المنخرطة في التحالف. ولأن مصالح أطراف التحالف المنشود كانت تصل إلى حد التناقض (لا سيما تركيا ومصر والسعودية)، خاض ثلاثة من كبار مسؤولي إدارة الرئيس أوباما، هم وزيرا الخارجية والدفاع وقائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال لويد أوستن، مفاوضات مضنية، للتعامل مع مخاوف أعضائه واهتماماته.


حرب لترتيب أوضاع الإقليم

الأمر الأخير الذي يثير اهتماماً كبيراً في الحرب الأميركية على "تنظيم الدولة"، هو حقيقة الأهداف الاستراتيجية التي تسعى واشنطن إلى تحقيقها منها. صحيح أن الرئيس أوباما أعلن أن الهدف النهائي من الحرب على التنظيم احتواؤه، تمهيداً للقضاء عليه، لكنه بدا واضحاً أنه، في الأثناء، لا بأس من استخدام الصراع لتحقيق أهداف جانبية لا تقل أهمية. من هنا، استغربت صحيفة "واشنطن بوست"، في مقالة للكاتب المحافظ ماكس بوت (Max Boot)، نشرت في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، حجم الالتزام الأميركي تجاه هدف القضاء على تنظيم الدولة. فقد وجد الكاتب، في دراسة مقارنة، أنه خلال فترة 75 يوماً بين 7 أكتوبر/ تشرين الأول و23 ديسمبر/ كانون الأول 2001، شنت الولايات المتحدة 6500 طلعة جوية، ألقت خلالها 17000 طن من القنابل ضد أهداف خاصة بالقاعدة و"طالبان" في الحملة الجوية في أفغانستان. في المقابل، خلال فترة الـ76 يوماً بين الثامن من أغسطس/ آب و23 أكتوبر 2014، شنت الولايات المتحدة 632 غارة، ألقت فيها 1700 طن من القنابل ضد أهداف وتجمعات داعش في سورية والعراق، أي بنسبة واحد إلى عشرة من حجم الضربات التي وجهتها أميركا للقاعدة.

هذا يعني أن الولايات المتحدة تحاول، عمداً، إطالة أمد الحرب، بما يتيح استخدامها أداةً للمساعدة في إنشاء نظام إقليمي جديد، وإعادة صوغ موازين القوى في المنطقة. وفضلاً عن أن واشنطن تعمل على استنزاف جميع القوى في المنطقة، في مواجهات ظاهرها مذهبي، يبدو أنها تمكنت من استعادة زمام المبادرة التي كانت فقدتها بعد انسحابها "مذؤومة" من العراق. فالحرب على تنظيم الدولة مكّنت الولايات المتحدة من استعادة بعض نفوذها في بغداد، بعد أن كانت فقدته كلياً لصالح إيران بعد عام 2011، وفيما تحاول واشنطن استخدام هذه الحرب أيضاً "جزرة" لجر إيران إلى اتفاق نووي، يسهل التقاء المصالح الأميركية ـ الإيرانية في القضاء على تنظيم الدولة، عملية إعادة تأهيل إيران عضواً "كامل الأهلية" في المجتمع الدولي، ويفتح الأبواب أمام الشركات الأميركية، للحصول على جزء من كعكة الـ250 مليار دولار التي تعتزم إيران طرحها للاستثمار، لإعادة تأهيل بناها التحتية المتهالكة، بمجرد رفع العقوبات عنها. أما الأكراد فقد ساعدت الحرب على تنظيم الدولة في تعزيز مواقعهم، بما يسمح بتحويلهم إلى أدوات ضغط، يجري استخدامها أميركياً ضد السياسات التركية الجامحة. أما العرب فعليهم أن يعملوا ليس فقط للدفاع عن المصالح الأميركية، واستطراداً الإيرانية، بل أيضاً نقيض مصالحهم، لمجرد دفع شبهة الإرهاب عن أنفسهم، وذلك بدخولهم الحرب ضد تنظيم الدولة من دون مناقشة. لكن، كل هذا ليس قدراً محتوماً، فلا إيران ولا أميركا ولا تنظيم الدولة، بإمكانها تحقيق مصالحها على حساب العرب، إذا قرروا أن يدافعوا عنها، كما تفعل تركيا.