عن نزيف هجرة الكفاءات من تونس

02 نوفمبر 2018
+ الخط -
عادت قضية هجرة الكفاءات إلى صدارة اهتمام المجتمع التونسي، نخبا سياسية داخل منظومة الحكم وخارجه، وفضاءً عاما، خبراء وملاحظين. ووصل الانشغال بهذا الملف الحارق في الراهن التونسي إلى مجلس الأمن القومي الذي يشرف عليه أعلى هرم الدولة، حيث خصص على جدول أعمال اجتماعه أخيرا حيزا واسعًا من نقاشاته لهذا الملف الذي أصبح يشكل نزيفا حادا للخبرات التونسية في اختصاصات متميّزة ودقيقة، فقد تفاقمت وتيرة الظاهرة في سنوات ما بعد الثورة، وبلغ عدد هذه الكفاءات التونسية المهاجرة منذ 2012، حسب تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية الصادر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، حوالي خمسة وتسعين ألفا، استقر معظمهم في أوروبا، وبنسبة مهمة في فرنسا وألمانيا ثم كندا. وتفيد الإحصاءات الصادرة عن ديوان التونسيين في الخارج، والوكالة التونسية للتعاون الفني، بأن هناك 8500 كفاءة عالية اختارت الهجرة الاختيارية إلى الخارج، منها ثلاثة آلاف أستاذ جامعي، و2300 مهندس، وما يفوق ألف طبيب في اختصاصات طبية مختلفة.
وذكرت وزارة تكنولوجيات الاتصال والاقتصاد الرقمي، في أحدث إحصائيات لها، أن القطاع الذي تشرف عليه (تكنولوجيا الاتصال والمعلومات) أصبح يعاني نزيفا حادا. حيث اختار90 % من خريجي المدارس العليا للاتصالات ممن زاولوا دراستهم العليا في تونس أو في الخارج، الهجرة، إذ "تغريهم بلاد أوروبا، في مقدمتها فرنسا، للعمل فيها، لمنحهم رواتب عالية، فضلا عن حق الإقامة للقرين أو القرينة وللأبناء".. وقد أكدت هذا المعطى مجلة ليدرز المتخصصة، أخيرا، فقد نبهت في افتتاحيتها لضرورة الشروع الفوري في وضع "مقاربة استراتيجية لهجرة الكفاءات التونسية، بعد أن وجدت البلدان الأوروبية في استقطاب الكفاءات من بلدان الجنوب بديلا لسد الحاجة إلى أربعمائة ألف مهندس في مختلف الاختصاصات، جراء هجرة كفاءاتها إلى الولايات المتحدة وكندا، حيث الرواتب أعلى والامتيازات أوفر".
وقد أخذت الظاهرة في القطاع الطبي منعرجا خطيرا، حيث توقعت عمادة الأطباء التونسيين أن يهاجر تسعمائة طبيب متخصص للسنة المقبلة، ليصل العدد إلى 2700 طبيب سنة 2022.

ويعتبر مهتمون بدراسة هذه الظاهرة المفزعة هذا الأمر عاديا، فقد كانت الدول العظمى في العالم اقتصاديا وعلميا وتقنيا وفنيا تنتج أحسن الكفاءات في مجالاتٍ عديدة، وتجلب إليها أحسن الأدمغة من بقية البلدان، هكذا فعلت أثينا في التاريخ القديم، والإسكندرية في العصر الهيلنستي، وبغداد في عهد الدولة الإسلامية القوية، والبندقية في عصر النهضة الأوروبية، وفيينا في أواخر القرن التاسع عشر. وليس هناك، حسب هؤلاء، قوانين تمنع السفر، وبالتالي الهجرة من بيئة اجتماعية أو علمية إلى أخرى تتوفر على إمكانات البحث والترقي العلمي، ناهيك عن إمكانية الحياة المرفهة للباحث أو المهندس أو الطبيب.
يضيف هؤلاء ما تعانيه الحالة التونسية من نسبٍ عالية من البطالة المتخصصة في أوساط الخريحين من أطباء ومهندسين وأساتذة، تصل إلى 24 %، يزيد في قتامتها وتعقيداتها النفسية والاجتماعية تصاعد موجات اليأس من تبدل الأحوال وتغير الأوضاع نحو الأفضل والأحسن.
وفي متابعته هذه الظاهرة، يرى الخبير والديبلوماسي، أحمد بن مصطفى، أن هجرة الكفاءات التونسية تمثل الوجه الخفي لسياسة تهجير الكفاءات التونسية إلى أوروبا، والتي قننتها اتفاقيات مبرمة مع أطراف أجنبية، منها اتفاق "الشراكة من أجل الحركية" الموقع مع الاتحاد الأوروبي في مارس/ آذار2014، تزامنا مع اعتماد برنامج العمل التونسي الأوروبي الذي فتح المجال للمفاوضات بشأن اتفاق التبادل الحر الشامل.. وكذلك اتفاق "الشراكة من أجل الشباب" الموقع في بروكسيل سنة 2016، ولم يكشف عن مضامينه، كما الشأن بالنسبة لـمشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق، واتفاق "الشراكة من أجل الحركية" الذي أرسى مبدأ "الهجرة الانتقائية"، بحيث يقع تيسير منح تأشيرة الإقامة طويلة الأمد والعمل لفائدة الطلبة أو الكفاءات العلمية والطبية التي تحتاج إليها أوروبا مقابل تضييق الخناق على الهجرة غير النظامية، وإلزامها بالعودة إلى تونس.
ويرصد رئيس تحرير مجلة ليدرز التونسية، عبد الحفيظ الهرقام، خطر"هجرة الكفاءات، والهجرة عموما، في أنها أصبحت في الراهن التونسي ثقافة مجتمعٍ ترسّخت في أذهان الشباب، وحتى الكهول، فالطلبة والأطباء والمهندسون وأساتذة التعليم العالي غدوا يعيشون على وقع رحيل مبرمج، بعد أن فقدوا الأمل في قدرة السياسيين والطبقة الحاكمة على إخراج تونس من نفق أزمتها المستحكمة."
تحوّلت هجرة الكفاءات التونسية، تبعا لكل المؤشرات، من ظاهرةٍ قد تكون عاديةً إلى نزيف قد يشلّ قريبا قطاعات حيوية في منظومة التنمية الشاملة. ولعل دوائر مسؤولة ومتخصصة في الدولة التونسية تأخذ هذا الملف بالاعتبار، فتوليه ما يلزمه من الدراسة وآليات إيقاف النزيف، وفقا لخطة قريبة المدى.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي