عن قصص الحنو

10 نوفمبر 2015

تمثال السيد المسيح في مشهد في ريودي جانيرو (Getty)

+ الخط -

تعود إليّ ابنتي من يومها المدرسي، في سنتها الدراسية الأولى، بقصص وأسئلة تفاجئني وتربكني. تسألني، حين ترى المصلوب المنتشرة صوره وتماثيله في الطرقات والزوايا، بعد أن كانت تظن، بمباركتي، أنه راقص طائر في الهواء:

- هذا يسوع... لماذا هو عار؟

- لأنهم أخذوا ثيابه

- ولماذا أخذوها؟

- لأنها كانت متسخة، ويجب أن يغسلوها

أجيبها متعجّلة، متأففة، ساعية إلى تغيير الموضوع. لكنها ما تلبث أن تستأنف، بعد أيام، بنبرةٍ لا تخلو من التأنيب واللوم: هو عارٍ لأن "الأشرار" مزّقوا ثيابه وضربوه وصلبوه. تخبرني بالتفصيل ما أردت تفادي إطلاعها عليه، وهي بعدُ في هذه السنّ الصغيرة، والاكتفاء بقصة رقيقة جميلة عن ولادة طفل المغارة، وما يرافق ذلك من أجواء عيد تتسّم بالفرح والهدايا والأضواء. وإذ تنظر في عينيّ مباشرة لترى ردة فعلي، تضيف أنها شاهدت ذلك في الفيلم الذي أرتهم إياه سور لورانس، أي الراهبة المسؤولة عن صفوف الصغار، ومفاده أن حجّتها هذه لا تردّ لسببين، أولهما أنها تملك البرهان (الفيلم)، وثانيهما أنها تعرف شخصياً السيد المسيح.

لقد علّمتني سنو إقامتي الطويلة في باريس بعض منافع النظام التربوي العلماني المعتمد في جميع المدارس والجامعات في فرنسا، وإن كنت أجد فيه، أحياناً، بعض المغالاة، حين تصبح كل حادثة صغيرة مدعاة إلى إثارة نقاش على المستوى الوطني، ينتهي غالباً بإصدار قانون من نوع منع ارتداء الحجاب، أو إبراز أي من الشارات الدينية، أو ممارسة طقوس العبادة خلال الدوام، من دون أن يعني ذلك أني أشكك في صلابة العلاقة التي قد تربط ما بين معاني الإيمان والتطوّر الأخلاقي.

لقد أظهرت دراسة علمية أجراها، أخيراً، فريق باحث في جامعة شيكاغو، أن الأولاد المنتمين إلى عائلات دينية ليسوا بالضرورة أفضل أخلاقياً من الذين نشأوا في عائلاتٍ لا انتماء ديني لها، بل العكس هو الصحيح، فقد شملت الدراسة 1200 طفل تتراوح أعمارهم بين خمسة أعوام و12 عاما، اختيروا من سبع مدن حول العالم هي شيكاغو، تورونتو، عمّان، إزمير وإسطنبول، كاب تاون الجنوب إفريقية، وغوانغزو الصينية، في حين توزعت النسب كالتالي: 24% مسيحيون، 43% مسلمون، 2.5% يهود، 1.6% بوذيون،  و28% من دون انتماء ديني.

وكانت الدراسة تقضي بإجراء تجربة عملية تتفحص مدى سخاء الأطفال واستعدادهم للعطاء ولمشاركة الأغراض مع أقرانهم، فأظهرت أن الأطفال المنتمين إلى عائلات تدين بإحدى الديانات السماوية، أي المسيحية والإسلام خصوصاً، متساوون بالعطاء، لكنهم يقلّون بنسبة 23 إلى 28 % عن المنتمين إلى عائلات غير دينية. وبيّنت التجربة، أيضاً، في جزء آخر منها يتعلّق بميل الأطفال إلى إصدار أحكام على الآخرين، ورغبتهم في فرض العِقاب على من ارتكب أخطاء، قابلية المسلمين منهم، ومن ثم المسيحيين، لفرض عقاب أقسى من ذاك الذي اختاره الأطفال المنتمون إلى العائلات الدينية الأخرى، أو غير الدينية.

وذكرت الدراسة أن النتائج تناقض تماما الفكرة السائدة عن تأثير التنشئة الدينية على أخلاقيات الأطفال، وتلك المشكّكة بأخلاقيات الأفراد غير المتدينين أو غير المنتمين دينياً، لتخلص إلى القول: "تشكّك النتائج في الفرضية القائلة إن الدين مهمّ للتطور الأخلاقي عند الأطفال، في حين أنها تعزز فكرة أن التربية العلمانية لا تقلّص من سخاء الأطفال وطيبة قلبهم، بل العكس هو الصحيح". ويبقى السؤال: كيف أخبر سور لورانس أن ما بثّته في طفلتي هو حقنة زائدة، وقبل أوانها، من العنف والقسوة، في حين أن قصص الحنوّ والتسامح والمحبة عن يسوع، لا تنقصها.

والسؤال يبقى: كيف تُرانا نمنع الرسالة من أن تصل مغلوطة في محتواها ووجهتها، فتتحوّل من دعوة إلى الحب والتسامح إلى شيء هو نقيضهما.

 

دلالات
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"