عن قتل الصحافي وأبواق الجريمة

29 أكتوبر 2018
+ الخط -
مؤلمةٌ جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. مفجعةٌ تفاصيل عملية القتل، بحسب تسريبات الصحافة التركية التي لم تثبت بعد صحتها، إذا كان ممكنا الحديث عن إثبات وقائع في حالة قتل في وضح النهار في قنصلية رسمية، من التعذيب إلى تقطيع الجثة على يد "طبيب"، في حين كان فريق القتل يستمع إلى الموسيقى. أتخيل المشهد السوريالي، وأكاد أشاهد رذاذ الدماء يتطاير من منشار "الطبيب"، في حين يستمع الحضور للموسيقى الراقية. في أي زمنٍ مرعب نعيش؟
مشهدٌ آخر لا يقل فجاعة عن عملية القتل البربرية المزعومة. حملات ترويجية صاخبة تعبر من الشبكة الإلكترونية إلى الغالبية العظمى من وسائل "إعلام" عربية تقليدية مارست مهامها بدرجة عالية من الحرفية في تغطية الخبر، بمعنى التغطية على مضمونه أو تشويهه. صحافي يُقتل وتُقطّع أوصاله زعما في قنصلية بلده، في حين تنطلق حملات ترويجية تتغنّى بولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي تحوم حوله الشبهات في التورّط شخصياً في الجريمة، وتشكك في رواية قتل الصحافي. يقوم صحافيون في وسائل إعلام واسعة الانتشار بتفكيك الرواية التي تناقلتها الصحافة التركية، فيتوصل أحدهم، في "تحقيق استقصائي"، إلى أن فريق القتل ليس سوى مجموعة من السائحين قدِموا إلى تركيا لأغراض مختلفة، منها عمليات زراعة الشعر.
نسج "صحافيون" آخرون رواياتٍ خياليةً، لا تكاد تصدق، تؤكد بناء على "مصادر موثوقة" أن قطر أو تركيا وراء الجريمة، بغرض الإساءة إلى سمعة المملكة السعودية. جاءتنا أصوات ضجيج التوك شو من مصر، ليستخدم نجومه خبرتهم الطويلة في تركيب المؤامرات، وتلقيمهما لجمهورٍ يعيش في خوف مستديم من المجهول. انشغل بعض نجوم الإعلام العربي على وسائل التواصل الاجتماعي ترويجاً ونشراً لصور ولي العهد السعودي، مستعيداً تقاليد شعراء البلاط على تفاهةٍ وتملقٍ لا يرقيان إلى موهبة هؤلاء. آخرون ممن جاوروا الصحافي الضحية، وعملوا معه، لم يتورعوا عن التغريد بما يشبه التشفّي في مقتله. وهناك من جهابذة الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان من صمتوا صمت القبور، وكأن لا جريمة ارتُكبت، ولا دماء سالت. على الدماء الصحافية أن تكون من الفصيلة الأيديولوجية نفسها للكاتب، حتى يستشعر الحاجة للدفاع عنها، وإلا فلتُرَق بصمت.
في المقابل، أطلقت الصحافة الأميركية، بشكل خاص، حملة دفاعا عن الحق في معرفة الحقيقة عن مصير الكاتب الصحافي. تفتح البوابة الإلكترونية لصحيفة واشنطن بوست التي أفردت لخاشقجي زاوية ثابتة لنشر مقالاته، بالإشارة إلى تاريخ اختفاء الصحافي لدى دخوله قنصلية بلاده، مرفقة بشعار "نريد أجوبة" عن مصيره. قدّمت محرّرة مقالاته، كارن عطية، المقابلة إثر الأخرى، لإبقاء قضيته حية، وفشلت في أن تتماسك عن البكاء في إحداها (قد يقول أحد المحللين المتحذلقين العرب: يا لسذاجتها). لم تتوقف الصحافة الأجنبية عن متابعة تفاصيل القضية والتحقيقات، إضافة إلى التذكير بأسماء لم نعرفها، أو لم نعد نذكرها، قضت في جرائم قتل في المنفى، ثمناً لنقدها أنظمةً عربية؛ من "الكلاب الضالة" لمعمر القذافي، إلى إخفاء المهدي بن بركة في باريس على يد عملاء للمغرب، وعمليات خطف أمراء سعوديين بقي مصيرهم مجهولا. صفحات سوداء قد يدفع المطبّلون للأنظمة بأنها من باب تشويه سمعتنا الطيبة.
سال حبرٌ كثيرٌ عن تبعية الإعلام العربي للحكومات، أو للمال السياسي، وعجزه عن الاستقلالية. في الوسع الحديث مطوّلا عن تدخّل الأنظمة وحكوماتها في إدارة الإعلام، والتحكم في تمويله. في الوسع أيضا، كتابة مطوّلات عن القيود التشريعية التي تحول ضد قيام صحافة وإعلام مستقلين واستمراريتهما. في الوسع أيضا الحديث عن الملكية الخاصة للإعلام، وفشلها في تغيير طبيعة الإعلام لتبعيتها للأنظمة، إلا أنه من الصعب القول إن جوقة الصحافيين أبواق الأنظمة، مهما بلغت بشاعة انتهاكات الأخيرة، مرغمة على التملق والنفاق في أبشع أشكاله، إلى درجة التغطية على جريمة قتل زميل. ثمّة اقتناعٌ هوياتيٌّ ثابتٌ ينتقل من جيل إلى آخر بأن سمعة الصحافي ونفوذه واستمراريته وقف على علاقات "الصداقة" التي تربطه بأصحاب القرار السياسي والمواقع الأيديولوجية التي يجد نفسه فيها، أو يسعى إليها. في الأنظمة العربية الأقل انفتاحا، ومنها السعودية، لا يعدو أن يكون الصحافي مجرّد عميل علاقات عامة، بحيث يتميز صاحب السلطة التقريرية داخل المؤسسة الإعلامية عن سواه بالولاء للنظام، والقدرة على تلميع الصورة، بحسب مستلزمات الوضع وتفاعلاته.

في جولاتي البحثية في الدول العربية عن العلاقة بين الإعلام والسياسة، قدّم مديرو تحرير كثيرون مهمتهم بأنها الحرص على عدم نشر معلوماتٍ قد تعتبر "حسّاسة" أو "مزعجة"، عبر مراقبة حماسة الصحافيين الشبان وضبطها، وهم الذين قد يرغبون بنمط غربي في العمل الصحافي من دون إدراك "خصوصية" الأوضاع في بلادهم.
بنت الصحافة الغربية مفهوم السلطة الرابعة على تقديس الخبر، واعتبار العلاقة مع السلطة جدلية بالضرورة. من الصعب تبسيط الأمور بالقول إن أشكال التبعية للسياسة غير موجودة هناك، لكنها أكثر خبثا، ولا تهدّد حقيقة وجود مجموعة مهنية قائمة بذاتها، لها تقاليدها التي تتجاوز بكثير مجرّد نقل تصريحات فلان أو تلميع صورته. وهي مكتسباتٌ تدافع المجموعة الصحافية بشراسة عنها، عندما تتعرّض للخطر، مثل ردة الفعل على حملة تشكيك الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فيها، وتقديمها عدوا للشعب، وردة الفعل الجارفة استنكارا لقتل جمال خاشقجي الذي تمتّع، في الأشهر الأخيرة من حياته، بالفضاء الرحب للصحافة الأجنبية، حيث كان في وسعه أخيرا أن يكون صحافيا. تقول محرّرة مقالاته، كارن عطية، إنه تحمّس لرؤية قاعة التحرير في الصحيفة النافذة، متسائلا إذا ما كنا سنشهد يوما غرف إنتاج صحافي مهنية بحق في العالم العربي. كتب، في مقالته الأخيرة، أن ما يحتاج إليه العالم العربي هو حرية تعبير، وهو يقصد بالتأكيد حرية تعبير الصحافي المهني، لا أبواق الطبل والزمر التي اجتاحت المهنة، وعاثت فيها خرابا.
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.