عن طقوس الاحتفال بالقتل

24 مارس 2015
+ الخط -

شهدت سجون الاستبداد في الدول العربيّة منذ الاستقلال تعذيبَ السجناء وقتْلهم والتنكيل بهم. وأقيمت في بعض الدول العربيّة طقوس احتفال بالقتل ضرباً وقتلاً وسحلاً أمام الناس، إلاّ أنّ أكثر القتل كان يقع سرّاً في أَقْبَية السجون، وكثيراً ما كان يُدفَن المقتول سرّاً في مقابر الناس، أو في مقابر جماعيّة سريّة. كان القتل، يومئذٍ، شبحاً مرعباً يخوّف به الطغاةُ شعوبهم، وكان إنكارُ وقوعه وتبريرُ موت السجين بالانتحار والسكتة القلبيّة، مبالغةً في الإزراء بالمقتول وتعذيب أهله: فهو يلتهمه النسيان، بعدما التهمه السجن، وهم يُحرمون من إكرامه، فلا يغسّلونه، ولا يصلّون عليه، ولا يدفنونه، ثمّ يُمنعون من زيارته. ودلالة هذا كله أنّ معارضةَ المستبدّ مغامرةٌ تقذف بصاحبها في مجاهل النسيان، وتلقي بأهله فريسة للحسرة والأسف. ثمّ اكتُشفت المقابر الجماعيّة التي حفرها الاستبداد وأخفاها، ورأينا الناس ينبشون التراب بأيديهم، عسى أن يجدوا دليلاً يهديهم إلى قتيلهم، فينفضون عنه تراب النسيان. وإذا تأمّلت هذه الصورة رأيتَ أنّ المقتولين سرًّاً، المدفونين جَمْعاً، هم الذين ينبشون مقبرة الأحياء، ويُظهرون بشاعة الظلم والاستبداد، ويُبدون للعالم قيمة الإنسان في دولة الاستقلال، ويحذّرون الأحياء منّا من العجز وسوء التدبير والتّفريط في الحقوق والاسْتِئْسَار للاستبداد والاستعباد.

ثمّ كثرت مشاهد الموت في الثورات العربيّة، وكان بعضها سريعاً في ساعة المعركة، وصُوِّرَ بعضها والقاتلُ مطمئنّ يتفنّن في التعذيب والقتل: جَلْداً ووأداً وطعناً وذبحاً وحرقاً. ثمّ تطوّرت صناعة القتل، وصار القَتَلة يخرجون في لباس موحّد، ويمشون بترتيب معيّن، ويؤدّون حركات مدروسة، ويلقون كلمات مختارة، ويملأون مسرح الطقوس بالرايات والهتاف. وتداول الناسُ مشاهد القتل في المواقع الإلكترونيّة وصفحات التواصل، وأقبلوا على مشاهدتها والتعليق عليها.

تشترك هذه المشاهد المتنوّعة في معنى واحد، هو الاحتفال بالقتل، ولهذا المعنى دلالات كثيرة، وكلّ قاتل يشتقّ منه الدلالة التي تلائم خطّته واعتقاده. فالغالبُ على كتائب الاستبداد استعمالُ العنف الشديد والترويعُ بالتعذيب والتنكيل والتمثيل سرّاً، ثمّ يُخرِجون الجثث إلى الناس، لإرهابهم وكبْت أصواتهم وإكراههم على التسليم للمستبدّ والتفريط في حقوقهم ومطالبهم. ثمّ تخطّى القتلة هذه المرتبة، وأكثروا من نشر مقاطع التعذيب التي يُقتل فيها المخالف طعناً أو حرقاً أو وأداً، وتَملأُ المشهدَ أنّاتُ المقتول، أو تكبيره وتهليله، وشماتةُ القاتل وتعليقاتُه الطائفيّة. اختُزلت الدولة في شرذمة من القتلة، واختُزلت آراء الناس واعتقاداتهم في الطائفة، وخرج القاتل من حال القتل في السرّ، ومن التخويف بالمُثْلة وتشويه الخِلْقة، إلى الاحتفال العلنيّ بالقتل إرهاباً وتخويفاً.

واقترن هذا الاحتفال عند جماعة أخرى بأمل خروج القائم، وإقامة "دولة الحقّ"، وامتلأت مواقع الإنترنت بروايات تقول إنّ الفتن التي تفتك بِدُوَلنا، اليومَ، هي بشائر خروج المهديّ. وادّعت جماعات أخرى أنّهم يَقتلون لإقامة حدود الدين، فصوّروا مشاهد قطع اليد والرجم والقتل بالرصاص وحرق الإنسان حيّاً، وزعموا أنّ ما يفعلونه عنف دينيّ مطلوب لردع الجناة وإحياء الشريعة. ولعلّ أبرزَ دلالة في هذه المشاهد هي البطشُ، فقد تجرّد القتلة من الشعور الإنسانيّ، فصاروا يقتلون بلا رحمة، ويذبحون الإنسان من غير أن تَطْرِف لهم عين، ويتلذّذون بإراقة الدماء. والغايةُ المرجوّةُ من هذا السلوك هي إرهابُ المخالفِ، وتحريكُ نوازع البطش في نفوس مَن يريدون الانتماء إلى التنظيم مِن المنحرفة طباعهم، وتربيةُ الأتباع على ثقافة الافتراس. فالقتل، بهذا المعنى، ليس فعلاً عارضاً، بل هو تنشئةٌ اجتماعيّة، يُراد منها أن يَتَطَعَّمَ القاتلُ والتابعُ والمؤيّدُ بدم المقتول، فتنشأ عندهم عادةٌ طلاَّبةٌ لإراقة الدماء؛ والقتل أيضاً رموزُ تواصلٍ ولسانُ تخاطب يكوّن احترافُه جماعةً مفارقةً للمجتمع، خارجةً عن قوانينه شاذّةً عن لغته ولسانه.

وربّما أضعفَ اختلافُ لباسِ القتلة دلالةَ البطش، فقدّم مشهداً مرتجَلاً، أو أَوْهَى صورة وَحْدَة القتلة في نفس المُشاهد، أو صوّر القتلة كأنّهم قطّاع طرق يقتلون ويسلبون. وقد انتبهوا لهذا الأمر، فصار لباسهم موحّداً، وحركاتهم مضبوطة. واللباس الموحّد في مشاهد الاحتفال بالقتل عنوانُ هويّة وانتماءٍ، وطلائعُ سلطة آخذة في التشكّل، وعلامةُ تمييز وتشريف بالانتساب إلى نخبة التنظيم، ومحوٌ لما بين الأعضاء من فوارق، وإظهارٌ لمعاني البأس والانضباط العسكريّ، أي إنّه يصنع ما يمكن تسميتها بلاغة الرعب.

وكما يُرعب القتلة مخالفيهم، يرعبون أتباعهم، فمشاهد الاحتفال بالقتل تقطع صلة المحتفلين بالمجتمع، وتجعلهم عصابةً خارجةً عن القوانين الدوليّة والأعراف الاجتماعيّة، مارقةً من الدين والوطن والقبيلة. وإذا تورّط القاتل في القتل العلنيّ مكشوفَ الوجه، فقد نصب نفسه غرضاً لأعدائه، وإذا خرج في المشهد مقنّعاً اختنق بقناعه لأنّه لن يستطيع نزعه، إلاّ إذا غلبت جماعته، وصار لها سلطان وشوكة ودولة، فتتبدّد إنسانيّته، ولا يبقى من أبعاد شخصيّته إلاّ القتل والبطش وإراقة الدماء. وليس له، حينئذٍ، إلاّ الاحتماء بجماعته، فيزداد بأساً في تنفيذ أوامرها، ويزداد انتماؤه إليها تحجّراً، ويضيق وجوده، فلا يرى في العالم الرحب إلاّ راية واحدةً، وتنظيماً واحداً، ورأياً واحداً، ومعسكراً واحداً، يمثّل الحقّ كلّه، وكلّ من خالفه جاز قتله والتمثيل به. وما أبعد الحقَّ عن الاعتقاد أنّ إقامة الحقّ لا تكون إلاّ بالإسراف في إراقة الدماء، وأنّ التعذيب والتنكيل والتهجير والاغتصاب أعمال جائزة مبرّرة بالدين.

A614EF74-C1F1-4E15-90EC-0B94242176DA
عبدالله جنوف

أستاذ بالجامعة التونسيّة. متخصّص في الإسلاميّات.