15 نوفمبر 2024
عن طبائعنا المكتسبة والأصيلة
"ولدوا من اتحاد الرجل مع الآلات، وجوههم تشبه البشر، بل إن المرء غالباً ما يخلط بينهم وبين الآلات، ولكن سرعان ما يدرك أنهم لا يتصرفون كما يتصرف البشر، بل كما تتصرف الآلات. لهم مقاييس وأجهزة تشبه الساعات، بدلاً من القلوب، وأدمغتهم نوع من الآلة". ذات يوم، سيتحول البشر آلات متحركة.. كانت هذه نبوءة الكاتب الروماني، قسطنين جورجيو، في روايته المدهشة "الساعة الخامسة والعشرون"، والتي كتبها قبل منتصف القرن الماضي، حيث لم يكن قد تم بعد اختراع الكومبيوتر والهواتف المحمولة، وكل التقنيات الحالية التي تكاد تحولنا جميعا، نحن مستخدميها، إلى ما يشبه النسخ عنها، لفرط تعلقنا وارتباطنا بها.
غير أنني لم أقتبس هذا المقطع من الرواية لأتحدث عن مصير إنسان الزمن الحالي، كما تنبأ به جورجيو، وإنما للحديث عن طبائعنا نحن البشر، واختلافها بين شخص وآخر، مهما كانت درجة القرابة بينهما، إذ يعتقد بعضهم أن طبع الإنسان يولد معه، ويوردون أمثلة على ذلك: "الطبع غلب التطبع"، وقد يكون هذا صحيحا إلى درجة معينة، إذ ثمّة صفات شخصية في كل منا يرجع منشؤها إلى الجينات والوراثة، وهذه طبائع أصيلة لا يمكن تغييرها، قد تزداد وضوحا مع الزمن، وقد تبهت بفعل الزمن أيضا، حسب نشأة الشخص وثقافته ودرجة وعيه وقدرته على التحكّم بهذه الطبائع.
غير أن ثمّة صفات وطبائع مكتسبة، تصبح جزءا من شخصية كل منا، بحيث تبدو كما لو أنها طبائع موجودة فينا منذ الولادة، بينما الحقيقة أننا نتلقى هذه الطبائع، ونتمثلها من دون أن ننتبه إلى زمن حدوث ذلك، وقد نضطر إلى اكتسابها، كي لا نخرج عن سائد الأمكنة التي نعيش فيها، أو كي نلتزم بالقوانين المفروضة، أو نلتزم بتعاليم دينية وأخلاقية مجتمعية، تلقناها منذ طفولتنا، فمثلا: يولد البشر جميعا بميل واحد نحو الحرية الشخصية، لا يولد شخصٌ متزمت أو أصولي ومحافظ، أو مؤمن ملتزم، وآخر منفتح أو منفلت أو لا أدري أو معدوم الإيمان.. هذه صفات وطبائع مكتسبة من البيئة التي يعيش فيها هذا الشخص أو ذاك، مثلما لا يولد شخصٌ يرضى بالعبودية وآخر يرفضها، هذا أيضا مكتسب، وتفرضه أنظمة المكان الذي يعيش فيه كل منا، هذه أفكار تبث شيئا فشيئا إلى إدراكنا، ونحن مازلنا في بداية التشكّل، وتتعزّز في دواخلنا، بحيث تصبح جزءا من لا وعينا، الدافع الرئيس وراء سلوكنا البشري اليومي. المشكلة أن معظمنا يتبنّى هذه الأفكار التي تشكل طباعه لاحقا، بوصفها جزءا أصيلا من شخصيته، من دون أدنى محاولة للتفكير. وقد لا يكتفي بعضهم بالتبني، بل قد يصل في دفاعه عن أفكاره هذه إلى حد تحوله إلى قاتل، من دون أن ينتبه أيضا إلى التحول الذي أصاب شخصيته، بحيث لا يفرّق بين الأصيل والمكتسب فيها. مثلما لا يوجد أيضا شخص ولد وهو يحترف الكذب أو السرقة أو الأمانة أو حفظ الود أو النميمة أو أي صفةٍ وطبع بشري تخطر لكم، كلها طبائع مكتسبة، وهناك ظروف موضوعية سهلت اكتسابها.
تتعلق بعض الطبائع أيضا بالمهن التي يمارسها الإنسان: لا تشبه طبيعة الموسيقي بأي شكل طبيعة السياسي، ولا طبيعة الشاعر تشبه طبيعة الطبيب. تخيلوا أيضا كيف ستكون طبيعة الشخص الذي يتعامل طوال حياته مع التكنولوجيا! سيكون هادئا وعقلانيا وبارد العواطف، بما يتناسب نفسيا وماديا مع طبيعة مهنته، عكس الفنان التشكيلي، مثلا، المتعامل بكل عواطفه مع الألوان والتفاصيل الفوضوية، وسط مشهد كلي منتظم، العامل في مصنع مع آلات مصمتة، سيكون أكثر دقةً وصرامةً من الفلاح الذي يتعامل مع مواد حيّة، مثل التراب والزرع والماء.
غير أن خلف هذا الاختلاف المكتسب في الطبائع البشرية ثمّة دوائر للالتقاء، دوائر تتسع وتضيق، حسب درجة وعينا وقدرتنا على التكيف والتأقلم، بما يتيح لنا الاستمرار في ممارسة آدميتنا وإنسانيتنا، خصوصا في هذا الزمن الصعب والمرعب الذي أصبحت فيه إنسانيتنا وآدميتنا في الحضيض، ويتحكّم فيها قلة قليلة من المافيات التي تصنع وتتاجر بكل شيء، بدءا من التكنولوجيا والسلاح والحروب، وانتهاءً بالإنسانية الذاهبة، بخطواتٍ حثيثة، نحو الفناء.
غير أنني لم أقتبس هذا المقطع من الرواية لأتحدث عن مصير إنسان الزمن الحالي، كما تنبأ به جورجيو، وإنما للحديث عن طبائعنا نحن البشر، واختلافها بين شخص وآخر، مهما كانت درجة القرابة بينهما، إذ يعتقد بعضهم أن طبع الإنسان يولد معه، ويوردون أمثلة على ذلك: "الطبع غلب التطبع"، وقد يكون هذا صحيحا إلى درجة معينة، إذ ثمّة صفات شخصية في كل منا يرجع منشؤها إلى الجينات والوراثة، وهذه طبائع أصيلة لا يمكن تغييرها، قد تزداد وضوحا مع الزمن، وقد تبهت بفعل الزمن أيضا، حسب نشأة الشخص وثقافته ودرجة وعيه وقدرته على التحكّم بهذه الطبائع.
غير أن ثمّة صفات وطبائع مكتسبة، تصبح جزءا من شخصية كل منا، بحيث تبدو كما لو أنها طبائع موجودة فينا منذ الولادة، بينما الحقيقة أننا نتلقى هذه الطبائع، ونتمثلها من دون أن ننتبه إلى زمن حدوث ذلك، وقد نضطر إلى اكتسابها، كي لا نخرج عن سائد الأمكنة التي نعيش فيها، أو كي نلتزم بالقوانين المفروضة، أو نلتزم بتعاليم دينية وأخلاقية مجتمعية، تلقناها منذ طفولتنا، فمثلا: يولد البشر جميعا بميل واحد نحو الحرية الشخصية، لا يولد شخصٌ متزمت أو أصولي ومحافظ، أو مؤمن ملتزم، وآخر منفتح أو منفلت أو لا أدري أو معدوم الإيمان.. هذه صفات وطبائع مكتسبة من البيئة التي يعيش فيها هذا الشخص أو ذاك، مثلما لا يولد شخصٌ يرضى بالعبودية وآخر يرفضها، هذا أيضا مكتسب، وتفرضه أنظمة المكان الذي يعيش فيه كل منا، هذه أفكار تبث شيئا فشيئا إلى إدراكنا، ونحن مازلنا في بداية التشكّل، وتتعزّز في دواخلنا، بحيث تصبح جزءا من لا وعينا، الدافع الرئيس وراء سلوكنا البشري اليومي. المشكلة أن معظمنا يتبنّى هذه الأفكار التي تشكل طباعه لاحقا، بوصفها جزءا أصيلا من شخصيته، من دون أدنى محاولة للتفكير. وقد لا يكتفي بعضهم بالتبني، بل قد يصل في دفاعه عن أفكاره هذه إلى حد تحوله إلى قاتل، من دون أن ينتبه أيضا إلى التحول الذي أصاب شخصيته، بحيث لا يفرّق بين الأصيل والمكتسب فيها. مثلما لا يوجد أيضا شخص ولد وهو يحترف الكذب أو السرقة أو الأمانة أو حفظ الود أو النميمة أو أي صفةٍ وطبع بشري تخطر لكم، كلها طبائع مكتسبة، وهناك ظروف موضوعية سهلت اكتسابها.
تتعلق بعض الطبائع أيضا بالمهن التي يمارسها الإنسان: لا تشبه طبيعة الموسيقي بأي شكل طبيعة السياسي، ولا طبيعة الشاعر تشبه طبيعة الطبيب. تخيلوا أيضا كيف ستكون طبيعة الشخص الذي يتعامل طوال حياته مع التكنولوجيا! سيكون هادئا وعقلانيا وبارد العواطف، بما يتناسب نفسيا وماديا مع طبيعة مهنته، عكس الفنان التشكيلي، مثلا، المتعامل بكل عواطفه مع الألوان والتفاصيل الفوضوية، وسط مشهد كلي منتظم، العامل في مصنع مع آلات مصمتة، سيكون أكثر دقةً وصرامةً من الفلاح الذي يتعامل مع مواد حيّة، مثل التراب والزرع والماء.
غير أن خلف هذا الاختلاف المكتسب في الطبائع البشرية ثمّة دوائر للالتقاء، دوائر تتسع وتضيق، حسب درجة وعينا وقدرتنا على التكيف والتأقلم، بما يتيح لنا الاستمرار في ممارسة آدميتنا وإنسانيتنا، خصوصا في هذا الزمن الصعب والمرعب الذي أصبحت فيه إنسانيتنا وآدميتنا في الحضيض، ويتحكّم فيها قلة قليلة من المافيات التي تصنع وتتاجر بكل شيء، بدءا من التكنولوجيا والسلاح والحروب، وانتهاءً بالإنسانية الذاهبة، بخطواتٍ حثيثة، نحو الفناء.